ماذا سنجد غير الدهشة .. رحلة مع مسافر مقيم للرحالة باسم فرات... صالح الطائي

أدب الرحلات، هذا المسمى الواسع، يطلق عادة على ما يدون عن المشاهدات والسماع والقراءة أثناء رحلة أو مجموعة رحلات يقوم بها الكاتب شخصيا، حيث يسجل ملاحظاته عن تلك الرحلات، ثم يعود ليوثقها حسب أسلوبه وخلفيته الثقافية والعلمية وتخصصه، فتأخذ صورتها من صورة تخصصه، فما يوثقه الشاعر يختلف عما يوثقه عالم الحفريات أو عالم النبات أو عالم الجيولوجيا، ويتحول مثل هذا النوع من الكتابة عادة إلى مصدر مهم من مصادر علوم الجغرافية والتاريخ والاجتماع بسبب معايشة الحدث واقعيا والنقل مشاهدة لا سماعا، مع أن للسماع دورا لا ينكر، وعليه تجد فضلا عن الفوائد الكبيرة لمثل هذا النوع من الأدب، نوعا من التسلية والمتعة لدرجة أنك تشعر أحيانا وكأنك تتجول في المكان الذي يتحدث عنه الرحالة وتعيش معه مغامرته؛ لأن النفس الإنسانية مجبولة على حب الاستطلاع.

جاء أدب الرحلات من خلال تسجيل الرحالة ملاحظاتهم ورؤاهم؛ سواء كانوا مستكشفين أم جغرافيين أم هواة سفر أم موفدين لأغراض سفارة بين حكومتين أم بدوافع سياسية أم جمع معلومات عن منطقة ما، لما تقع عليه أعينهم أو يصل إلى آذانهم بما فيه من  الأساطير والخرافات. 

ومع أن التجوال سمة لازمت الإنسان عبر تاريخه الطويل، وحالة فرضتها عليه أنماط الحياة التي كان يعيشها، إلا أن العراقيين القدماء قد يكونون أول من أهتم بأدب الرحلات، ربما من خلال سرد كلكامش البابلي للمخاطر التي واجهته أثناء رحلته بحثا عن ماء الخلود، وكأنهم أرادوا القول أن السفر عبر المسافات بما فيه من تعب ومخاطر يأتي دائما للبحث عن هدف عظيم، فهو عند كلكامش بحثا عن ماء الحياة وعند عنترة بحثا عن مهر الحبيبة. وهو على العموم بحث عن هدف ما يجعل الحياة أكثر جمالا وروعة، ومن العراقيين القدماء أخذ الإغريق هذه الصنعة فكتبوا ملحمة الأوديسا الإغريقية، وجالوا في البلدان. وفي مرحلة من مراحل التاريخ العربي كانت هناك رحلات من نوع آخر مثل ملحمة أبو زيد الهلالي وملحمة الزير سالم أبو ليلى المهلهل ورحلة عنترة العبسي، وغيرها.

ثم شاع بين العرب حب السفر بحثا عن جديد بعد أن فتح الإسلام أقفال قلوبهم وزرع فيهم حب العلم والتعلم. لكن الغريب في الأمر أن أكثر الرحالة المسلمين كانوا من أهل شمال أفريقيا وبلاد الأندلس، مع قلة قليلة من المشرق العربي، وأغلبهم كانوا مكلفين بمهام رسمية، وقلة منهم كانت مهتمة بالعلم والإطلاع. وكأنموذج لهاتين الخاصيتين، نأخذ:

1ـ البيروني: وهو أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (ت 440 هـ)، كان فيلسوفًا وفلكيا وجغرافيا وجيولوجيا ورياضياتيا وصيدليا ومؤرخا ومترجما، دخل الهند برفقة السلطان محمد الغزنوي عند فتحها، فلبث فيها أكثر من أربعين عاما يكتب عن جغرافية وثقافة وتاريخ وعقائد ولغات وأصول هذا البلد، فترك ثروة فكرية عظيمة، منها مدونة رحلته (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)

2ـ سلام الترجمان: الذي قام برحلة إلى حصون جبال القوقاز، والأصقاع الشمالية من قارة آسيا، سنة 227 هجرية، بحثاً عن سد ذي القرنين ويأجوج ومأجوج، بتكليف من الخليفة العباسي الواثق باللّه؛ الذي رأى في المنام أن السد الذي بناه ذو القـــرنين قــد نُقِبْ، فـــــأفـــــزعه ذلك، وهي الرحلة التي روى قصتها "الإدريسي" في كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، ورواها "ابن خرداذيه" في كتابه (المسالك والممالك)، والتي اعتبرها المستشرق "دي خويه" واقعة تاريخية جديرة بالاهتمام، وأيده في هذا الرأي مجموعة خبراء منهم خبير الجغرافيا التاريخية "توماشك" 

3ـ ابن بطوطة: محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي (703 - 779هـ) وهو مؤرخ وقاض وفقيه من مدينة طنجة في المغرب، ابتدأ رحلته سنة 725 هجرية لأداء مناسك الحج، ثم استهواه السفر طاف في البلاد. 

4ـ لسان الدين بن الخطيب: من غرناطة، كتب عن المغرب التي مكث فيها منفيا كتابين، الأول (خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف) والثاني (نفاضة الجراب في علالة الاغتراب)

5ـ ابن خلدون: مغربي رحل إلى بلاد الأندلس وأقام فيها ضيفا على ملك غرناطة من بني الأحمر، وأشبيلية حين أوفده الملك في سفارة إلى حاكمها المسيحي، ثم مصر التي أقام فيها قرابة ربع قرن متقلِّبا بين مناصب التدريس والقضاء. وله في أدب الرحلات، (نفاضة الجراب في علالة الاغتراب) 

6ـ أحمد بن قاسم الحجري المشهور بأفوقاي، وهو رحالة موريسكي هرب سنة 1597ميلادية من بلاد الأسبان، ضواحي غرناطة، خوفا من محاكم التفتيش وسكن بلاد المغرب وعينه سلطانها زيدان الناصر بن أحمد سفيرا له في بلاد أوروبا، فجمع المغامرات في كتابه.

7ـ أحمد بن المهدي الغزال: فقيه وسياسي ودبلوماسي وأديب مغربي، كان الكاتب الخاص للسلطان محمد بن عبد الله، أرسله السلطان سفيرا لدى ملك إسبانيا بين سنوات 1766 - 1767م، فصنف كتاب (الاجتهاد في المهادنة والجهاد)، دَوَّنَ فيه رحلته إلى إسبانيا.

8ـ المكناسي: أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي (توفي 1799م) أصله من مكناس في المغرب، وهو رحالة ومؤرخ ووزير السلطان سيدي محمد بن عبد الله، الذي بعثه سنة 1193 هجرية سفيرا إلى إسبانيا، بدلا عن السفير أحمد بن المهدي الغزال، وألف المكناسي (الإكسير في فكاك الأسير) و (البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر)، الذي دون فيه مشاهداته خلال تلك السفارة 

9ـ ابن جبير الأندلسي الذي ابتدأ سنة 585 للهجرة أولى رحلاته.

10ـ الإدريسي الأندلسي: محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس يرجع نسبه إلى الإمام الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، ولد في مدينة سبتة في المغرب سنة 493 هـجرية، وسكن غرناطة، ولقب بالصقلي لأنه اتخذ جزيرة صقلية مكاناً له بعد سقوط الأندلس، ألف كتابه المشهور (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) والمسمى أيضًا (كتاب روجر) أو (الكتاب الروجري) وذلك لأن الملك روجر ملك صقلية هو الذي طلب منه تأليفه

قبالة ذلك نجد أن أشهر رحالة المشرق، هم:

1ـ ابن فضلان، هو أحمد بن العباس بن راشد بن حماد البغدادي، عالم إسلامي من القرن العاشر الميلادي، أرسله  الخليفة العباسي المقتدر بالله سفيرا إلى ملك الصقالبة (بلغار الفولجا) سنة 921م.

2ـ المقدسي: محمد بن أحمد البشاري المقدسي صاحب (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم)، وهو من بيت المقدس في فلسطين.

أما المسعودي مؤلف (مروج الذهب): وهو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي، فيشك في أصله، قيل أن مسقط رأسه بغداد، وقال ابن النديم: إنه من المغرب، وربما جاء الاختلاف من كونه كان نزيل مصر، وتوفي بها سنة 346 

المهم أن هؤلاء الرحالة العرب المسلمون هم المؤسسون الحقيقيون لأدب الرحلات وللدراسات الانثروبولوجية، وإذا ما كانت القواميس قد عرفت الدراسات الانثروبولوجية بأنها: دراسات علم الإنسان الطبيعية والاجتماعية والثقافية، فإن ما قام به الرحالة العرب وما دونوه في مدوناتهم يكاد يكون الأصل الأول لهذا العلم.

الرائع في أدب الرحلات انه لم ينقرض مع ما انقرض من متعارفات إنسانية عبر التاريخ، لأنه بقي إحدى مناطق التوهج التي يبحث فيها العقل الإنساني عن ذاته، وأحد أكبر أسرار العالم المجهول، الذي يبحث الإنسان فيه عما خفي عنه من وسائل إشباع غريزة البحث عن الجديد والمدهش. وإذا ما كانت الرحلات القديمة قد جرت غالبا بأمر السلطان فإن كثيرا من الرحلات المعاصرة جاءت هروبا من السلطان الجائر، ولنأخذ على سبيل المثال الشاعر العراقي الكربلائي باسم فرت، هذا الفرات العذب من أنهر العراق التي تحصى عددا ولا تعد عذوبة، الذي قادته صعوبة الحياة في العراق ومحاولات الدكتاتورية تكميم أفواه الجماهير إلى الهجرة بعيدا لأنه لم يطق أن يغلقوا فمه؛ وهو الشاعر المفوه، هكذا بقليل من الحسابات ودون أن ينظر إلى الوراء حمل بعضا يسيرا من حاجياته الشخصية، ويمم وجه شطر المجهول، ورحل بعيدا، ثم كتب له أن يعيد تنميط الآخر في مخيلتنا من خلال الصور التي رسمها خلال خطوط رحلته من العراق إلى الأردن ثم نيوزيلندا فاليابان فلاوس في كمبوديا، ليضع رحله ويلقي عصاه في أمريكا اللاتينية، وفي الإكوادور تحديدا، وليبدأ من هناك تسطير رؤى مدهشة من عوالم السحر والخيال الممزوج بالحقيقة والفانتازيا من عالم أمريكا اللاتينية السحري متداخل الأعراق والثقافات والأصول، تلك الأقوام التي تقاتلت بوحشية قل نظيرها ثم أعادت ترتيب أولوياتها وتشكيل نفسها. حيث يرى أن السفر حاجة لا غنى عنها [ص90]

ولقد نجح باسم لأنه كان يهدف إلى نقل هذه التجربة إلينا قبل غيرنا، فالرحالة في نظره كطالب العلم يبحث عن مطلبه في أنسب الأماكن، فهو يرى الطبيعة كتابا يقرأ فيه ليتجاوز الامتحان[ص169] وهو في الواقع رحل بحثا عن قصيدة أو ذكرى تكون رصيدا له في قابل الأيام[ص204]

وهو من النوع الذي يكره أن ينقطع ذكره أو يمحى أثره، فطالما أنه يرى الحياة هي الأبدية، فلابد له حتى لو رحل أن يترك ما يذكر الآخرين به: "ففي شيخوختي التي أرجو أن تكون بعيدة سوف يرتد طرفي إلي فلا أرى ما استند عليه سوى هذه الرحلات والمشاهدات والمعايشات فهي عصاي وزوادتي لكن لا مآرب لي فيه[ص204]

كانت الهمسات التي سطرها باسم في كتابه (مسافر مقيم) بأسلوب جديد في أدب الرحلات قد اعتمدت على شاعريته وخياله الخصب وملكته الأدبية وقراءاته العميقة لتاريخ العراق، والإفادة التي حققها من هذه القراءة، بما مكنه من التوغل في امتدادات التاريخ: اللغات والديانات والثقافات والأقوام والإثنيات، وأخير فلسفته التي يؤمن بها، والتي لخصها بقوله: "فشعاري دائما: يجب أن ابتسم حين أواجه الموت لأجعل الابتسامة آخر ما افعله في هذه الدنيا الرائعة، كم احبك أيتها الحياة فأنت أبديتي الحقيقية[[ص49]]

ولذا اختار مكانا قد لا يكون عراقيا آخر قد سبقه إليه، أو ـ في الأقل ـ أقام فيه، وهي الإكوادور، فهو يبحث عن أماكن لم تفك عذريتها خطوات شعراء وأدباء قبله، "فلا قيمة للاماكن التي سبقني إليها شعراء وأدباء ومجانين ومغامرون،لأنها تشعرني بذات الرايات في تراثنا وما ارخص ذوات الرايات" [ص78]

في رحلته الطويلة ربط باسم رؤاه عن البلد الذي أقام فيه، مع رؤاه عن البلدان الأخرى التي مر أو أقام فيها، ثم ربط ذلك كله بالعراق بأسلوب المقاربة والتذكير وكأنه يحث المسؤول العراقي أو يذكره بقصوره وتقصيره، وكان إذا رأى مكتبة قارب ذلك مع بلدان أخرى ثم عاد إلى العراق، وإذا رأى متحفا عمل الشيء نفسه، وإذا رأى متنزها أو حديقة عامة أو مهرجانا تراثيا أو طريقا مزروع الجانبين، ولذا تراه حينما يتحدث عن نيوزلندا التي يقل عدد نفوسها عن أربعة ملايين نسمة يقول: "كل مدينة وبلدة مهما صغرت لابد من مكتبة ومتحف فهما إيقونة البلدة"[ص57]

وحينما يتحدث عن كيتو يقول:"وجدت في كيتو عاصمة الإكوادور عدة متاحف رغم أن نفوس كيتو لا تزيد عن 35% من نفوس بغداد... وقد زرت مستوطنات وقرى للسكان الأصليين هي عبارة عن متحف حي"[ص57] وحينما يتحدث عن لاوس هذه الجمهورية الشيوعية التي تعد احد أفقر عشر بلدان بالعالم، يقول: "ففيها قدر لي أن احضر نشاطات ثقافية هائلة"[ص96] ليربط ذلك بالعراق محاولا الإفادة مما رآه وليقف بوجه ثقافة الإقصاء والكراهية التي تحكم البلد اليوم، ليقول: "فكنت أتساءل ما المانع مقارنة بنيوزلندا وسواها أن يكون لنا في كل محلة بغدادية وموصلية وبصرية ونجفية وكربلائية وكوكوكية متحفا يضم تاريخ المحلة وحرفها وصورا لمشاهيرها... ألا يستحق الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان تمثالا بل متحفا في الكوفة يضم كل ما كتب عنه وهو احد أهم ما أنجبته المنطقة وأكثرهم تسامحا وانفتاحا؟"[ص58] أو كما يقول في مكان آخر متحدثا عن لاوس: "حيث الفقر المدقع والنظام الشيوعي وتعدد مذهل بالتنوع الاثني يربو على مائتي اثنية في بلد تعداد نفوسه ستة ملايين"[ص 82]

إن بغداد بالنسبة إلى باسم فرات بالرغم من جراحها تبقى (مدينة السلام) فلماذا لا نترجم هذه الحقيقة ونذكر الناس بها؟ يقول باسم فرات في حديثه عن ميناء لوبيز أن فيه يافطة مكتوبا عليها كلمة (سلام) بأغلب لغات الدنيا بما فيها العربية"[ص61] فلماذا لا نعمل يافطة مثلها في بغداد؟!

في رحلته الطويلة كان باسم فرات يحمل العراق بين جوانحه وهو يتنقل في أصقاع الدنيا، ولطالما ذكرته صورة ما مهما كانت بسيطة بالعراق، فهو حينما يسمع باعة السمك أو الباعة المتجولين ينادون على بضاعتهم يتذكر مدينته ويتذكر العراق ربما لأنه، وكما يقول: "وأنا الشغوف بمناداة الكسبة حيث انتمائي لهم"[ص62]

لقد اثبت باسم فرات أن السفر لا يمكنه لوحده أن يخلق رجالا، فالثقافة والعلوم العامة جزء مهم في هذه المهمة الكبيرة والصعبة، لأنها تتيح إجراء المقاربات بين الرؤى والمرئي، وما موجود من ذكريات في خزين العقل يستفزه أكثر من منظر تربطه به وشيجة تخلق تحديا، ولمَ لا فعقلاء العالم يبدأون من انتهى الآخرون، ونحن بعد ان تأخرنا كل هذه القرون ممكن لنا أن نفيد من تجارب الآخرين في بناء بلداننا ومستقبل أجيالنا.

انطلقت أضواء هذه الرحلة الشيقة والمدهشة والغريبة في يوم 23 تموز 2012 لتصل بعد ساعات البوح ومحطات الدهشة والخطر في يوم 8 حزيران 2013 إلى نهايتها، ثم جمع باسم حصيلتها في إيقونة، وتقدم بها إلى مسابقة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة في موسمها 2013ـ2014  فحققت الفوز بالمرتبة الأولى، وطبعت بشكل أنيق لتأخذ مكانها في صدارة كتب أدب الرحلات المعاصرة، ولتحقق للعراق مكسبا جديدا لم تسلط عليه الأضواء، إن فوز (مسافر مقيم) لباسم فرات في مسابقة ابن بطوطة، وفوز رواية (فرنكشتاين في بغداد) لأحمد السعداوي في البوكر وكثير من التألق العراقي الذي لم يأخذ مكانه الحقيقي بين العراقيين، لا يمكن أن يسكت عنه، وأنا أرى أن من واجب الحكومة العراقية أن تقوم بتسليط الأضواء على هذه المنجزات الكبيرة، وتكريم الرجال الأفذاذ الذين حققوا هذا النصر العراقي الكبير، تكريما يليق بمنجزاتهم الكبيرة.