قرأت "فرانكشتاين في بغداد" مؤخراً، ورغم بساطة اللغة التي استخدمها الروائي العراقي احمد سعداوي في هذه الرواية التي حازت على جائزة البوكر العالمية للرواية العربية قبل اسابيع، الاّ انه كان بارعاً في خلق مستويات متعددة للصورة المراد اظهارها لوحشه الفرانكشتايني. هناك صورة مركبة، يفهمها كلٌ منا حسب رؤيته وتفسيره للأشياء
لقد ترك لنا سعداوي نحن القراء حرية فهم رمزية فرانكشتاين او "الشِسْمَة" كما تسمّيه الرواية. انه رمز ينفع لأي صورة نراها مناسبة. شخصياً اقرؤوها على انها العراق. فرانكشتاين هو العراق. العراق الذي يحضر معنا في السوق والشارع والمدرسة والمقهى والجامع، العراق الذي يقتلنا فرداً بعد آخر، العراق المخلوق المسخ الذي خيّطت الاقدار اجزاءه من بقايا جثث ابنائه وصار عاملاً للقتل اكثر منه رحمة ووطن. ربما احتاج الى شيء من التحديد هنا. فرانكشتاين المسخ هو عراق ما قبل التاسع من نيسان عام ٢٠٠٣ بالنسبة لبعضنا او هو ما بعد هذا التأريخ بالنسبه للبعض الآخر. هو مسخ لكليهما معاً لكنه وطنهم بالنهاية
اعذروني على هذه السوداوية في الوصف فليس ثمّة وصف افضل من هذا على بلد صار فيه حلم العيش سويةً جنوناً وهذيانا
كيف لا وسعداوي نفسه يصف فرانكشتاينه البغدادي في الصفحة ٣٣٥ ما نصه: "ظلت صورته تتضخم، رغم انها ليست صورة واحدة. ففي منطقة مثل حي الصدر كانوا يتحدثون عن كونه وهابياً، اما في حي الاعظمية فإن الروايات تؤكد انه متطرف شيعي. الحكومة العراقية تصفه بأنه عميل لقوى خارجية، اما الاميركان فقد صرح الناطق باسم الخارجية الامريكية ذات مرة بأنه رجل واسع الحيلة يستهدف تقويض المشروع الاميركي في العراق. ولكن، ما هو هذا المشروع يا ترى؟ بالنسبة للعميد سرور فإن مشروعهم هو خلق هذا الكائن بالتحديد، خلق هذا الفرانكشتاين واطلاقه في بغداد. الاميركيون هم مَن وراء هذا الوحش. الناس في المقاهي يتحدثون عن رؤيته خلال النهار، ويتبارى الجميع في وصف ملامحه البشعة. إنه يجلس معنا في المطاعم، ويدخل الى محال بيع الملابس، او يركب معنا في باصات الكيا. إنه موجود في كل مكان." انتهى
اننا نخلقه ثم نتبرّأ منه ، هذا ما يريد قوله سعداوي
فكرة قيام كائن يتكون من اجزاء بشرية مختلفة لاموات ليست بفكرة جديدة. هي فكرة قديمة شغلت مساحة لا بأس بها في المخيلة السينمائية الامريكية لكن الروائي العراقي احمد سعداوي استطاع توظيفها في سياق مختلف قليلاً عمّا وُجِدَت قصة فرانكشتاين الاصلية من اجله. واعجب من اتهام الروائي العراقي نجم والي لصاحب "فرانكشتاين في بغداد" سعداوي وقوله بأن الاخير قد "سرق" الفكرة بالكامل واقتبس التفاصيل كلها من فيلم "سبعة" وبالانكليزية se7en. ذلك الفيلم الذي مثل بطولته مورغان فريمان وبراد بيت عام ١٩٩٥. ولأني احرص ان اكون دقيقاً في حكمي، شاهدت الفيلم يوم امس مرةً ثانية بعد مشاهدته الاولى قبل اعوام، ولم اجد ما تحدّث عنه والي اطلاقاً. الفيلم مختلف تماماً عن رواية سعداوي وحزين على نجم والي تلك الكبوة الكتابية التي ستبقى وصمة غير جميلة في سجله الشخصي
لقد قدّم لنا سعداوي عملاً يستحق الاحترام، حبكة مميّزة وسرد خصب لاحداث ووقائع وشخصيات تتداخل اقدارها بعضاً مع بعض. بناء قصصي عمودي تتحرك الاحداث فيها صعوداً ونزولاً حسب كل فصل من فصول الرواية، اذ لا تسلسل منطقي للاحداث احياناً او هكذا تبدو. تُترك بعض التفاصيل ناقصة وغير مكتملة ثم تكتمل فيما بعد تباعاً لتصبح الصورة اكثر وضوحاً. انه لعمري اسلوب ما بعد الحداثة في كتابة الرواية
لم يمت فرانكشتاين في آخر الرواية، انه حي لا يموت، يحيا فينا ويتقوّى بنا. انه صنيعتنا المسخ وجزؤنا الشيطاني فحسب.
|