باعتقادي ان نجاح التجربة الديمقراطية في العراق وسلاسة انتقال السلطة تتوقف في المرحلة القادمة على مدى قدرة النخبة السياسية على خلق ما يُسمَّى بديناميكية السلطة والمعارضة، اي الانتقال من السلطة للمعارضة والعكس ايضاً، من المعارضة للسلطة. سيعتمد على قدرتها على صناعة خطاب يستفز الوعي ويعيد تشكيله ليرى اخطاء السلطة بشكل اوضح. خطاب كالذي مارسته ايام نظام البعث السابق حيث خلقت جمهوراً معارضاً رهيباً في ظل سيطرة بعثية مطلقة على وسائل الاعلام. كانت النخبة السياسية المعارضة في الخارج ولا علاقة لها بالسلطة في ظل دولة اُقفِلَت خزائن سياستها على حزبٍ واحد وقائدٍ واحد، لكنها مع هذا نجحت في صناعة رأي عام قوي. نجحت في تأجيج الداخل وايصال صوتها له، لماذا يا ترى؟ لماذا لا تستطيع فعلها مرة ثانية في ظل الفشل السياسي والامني والاقتصادي الذي تشهده البلاد من ثماني سنوات؟
السبب ربما في حرصها كلها على البقاء في دائرة السلطة والضوء. الجميع يريد ان يبقى في السلطة بغض النظر عن فشلها وفسادها. لا احد يرغب بمغادرتها طالما اعتقد بأنه سيفقد "المايكروفون" الذي يوصل صوته للناس. ليس منهم مَن يهتم ببناء برنامج انتخابي قادر على اقناع العوام للتصويت له، بل يريد بوهج السلطة ان يستميل هذا ويحفّز ذاك. فكانت النتيجة انهم كلهم سلطة من وجهة نظر البسطاء وكلهم مسؤولون عن الفشل
لهذه الظاهرة العراقية بدورها سببان، واحدٌ واقعي وآخرٌ برغماتي
اما الواقعي فيعود الى غياب العدالة والمساواة في المشهد الانتخابي العراقي، فالمال والسلطة والاعلام قد خلق هوّة كبيرة بين بعضهم وبعض. لم يأخذ الكثير من السياسيين فرصته للتعريف بنفسه مثلما اخذته كتل الحكومة او موالوها. حقيقة يعرفها الجميع فيحرص كلٌ منهم على بقائه في السلطة حتى لو كان هامشياً غير مؤثر، بل يتسابق الجميع على المشاركة في حكومة متهالكة منقسمة على نفسها حتى يبقى في دائرة الضوء وحتى لو كان على حساب مواقفه ومبادئه. اذ ما يشد الناس هو بطل الفيلم دوماً حتى لو كان الفيلم بائساً. البطل عندنا هم النخبة القابضة على مقود القيادة، النخبة التي تخرج في الاعلام وتتصدر الصحف وتملأ المناسبات ضجيجاً وتلك هي نخبة الحكومة لأنها هي مَن تسيطر على الوسائل كلها بعكس اغلبية معارضيها الذين لا صوت لهم الاّ على مَن يبحث عنهم فقط
ولأن ديمقراطيتنا تشبه الافلام من حيث التأثير والأثر، يبحث البسطاء من الناس عن بطل الفيلم فقط، فهو مَن سيبقى اسمه في ذهنهم بالنهاية، بينما تفتش النخبة عن مخرجه ومؤلفه وواضع موسيقاه. لعله السبب في انحياز النخبة العراقية لاسماء وقوائم مدنية غير متسلطة في بلد مزّقته الطوائف، في حين التف الناس باغلبيتهم حول مَن هم اصلاً موجودون في السلطة من سنواتٍ طوال. ليس هذا تبريراً لاختيارهم لكن هذا ما يروه امامهم ولا يرون غيره. لهذا السبب يحرص كل سياسي على بقائه في السلطة كي لا ينساه الناس ويصبح نسياً في عالم ينتخب الافراد فيه الاكثر صراخاً وضجيجا
ربما إنه ليس سبباً اخلاقياً لكنه واقعي كما وصفته
واما السبب الثاني فهو برغماتي نفعي بامتياز حيث يحرص بعض السياسيين على استمرار مغانمه في السلطة رغم انه ضدها ومعارض لها وسط جمهوره وناسه. ولأننا لا نملك قانون ينظم العملية الحزبية في العراق، وليس لدينا تمويل عام من ميزانية الدولة على الحملات الانتخابية للاحزاب، تصر الاحزاب على وجودها في السلطة كي تستفيد من الموارد المالية لوزرائها ومسؤوليها وتستخدمه في ديمومة الحزب وبقائه متماسكاً خلال ممارستها لحقها السياسي
وأياً كانت الاسباب، تركت هذه الظاهرة اثراً سلبياً عند الناس البسطاء على الاحزاب كلها، بل على العملية السياسية برمتها، فما ان تسأل احداً عن التغيير مثلاً حتى قال لك "مَن تريدني ان انتخب؟"، فهو يعتقد إن كلهم مسؤولون عن الخراب وكلهم مشاركون فيه لأنه رآهم كلهم في خيمة السلطة لا في معارضتها. على الاقل الاغلبية منهم
بغض النظر عن بساطة هكذا طرح وعن بساطة عقل قائله لأنه يتغاضى عن حقيقة ان فشل الحكومات يعني فشل رؤسائها اولاً قبل المشاركين فيها، الاّ إنه طرح له مبرراته طالما لا يوجد فرز واضح بين السلطة والمعارضة في العراق
لهذا اقول نحن بحاجة الى برامج ومشاريع سياسية قادرة على تحريك الناس وتثقيفهم نحو تشخيص مصالحهم بدلاً من التسابق للاشتراك في وزارت الحكومة "الشكلية" الخانعة تحت سلطة الرجل الواحد
الوجود في دائرة الضوء مهم، لكن الوقوف مع الناس اهم بكثير..
|