الوعي السياسي الوطني في جوهره وعيٌ بالقوانين، بصياغتها وصائغيها، بتداولها ومتداوليها، لكون القانون في جسد الأمة يشبه أنظمة الحياة في الكائنات الحية، تحدد حياتها وموتها وعمرها ونموها، وقدرتها على الاستمرار أو مقاومة الأمراض.
لأجل هذا تحرص الأمم الحية على أن يصل إلى قبة برلماناتها أشخاص وطنيون لا واعون بالقوانين وحسب بل قادرون على خلق وإبداع القوانين التي لا تدع خلية واحدة في جسد الأمة منفصلة عن بقية الخلايا ولا تترك عضوا في ذلك الجسد إلا وهو في غاية فاعليته وطاقته الإبداعية الأدائية التي تسهم في الحياة العامة للجسد.
من سوء حظ الشعب العراقي انه كان معزولا عن ممارسة مهامه السياسية طيلة عقود من الزمن، وحين فتحت له طاقة الأمل لإدارة شؤونه السياسية، بنفسه مباشرة أو بالنيابة، وجد نفسه جاهلا بعملية الاختيار وقاصرا عن تحديد الصالح من الطالح من المرشحين الذين ينوبون عنه في صناعة القوانين، فمرت الانتخابات الواحدة تلو الأخرى دون أن يعرف تماما ما الذي يجري أو ما الذي عليه فعله ليميز الخبيث من الطيب من بين آلاف المرشحين الذين لا يكاد يعرف عنهم إلا صورهم التي انهالت فجأة على الجدران والبنايات.
ومما زاد من سوء حظ العراقيين أن واجبهم السياسي أكثر صعوبة وأشد تعقيدا من غيرهم من البلدان، إذ لا ينحصر واجبهم على اختيار الأفضل لإدارة بلادهم، كما هو الحال في بقية البلدان الديمقراطية، بل إن على العراقيين فوق ذلك بناء البلاد أولا ومن ثم التفكير في كيفية إدارة تلك البلاد.
ولقد كانت الانتخابات البرلمانية الأخيرة فرصة جديدة للعراقيين كي يختاروا الأفضل والأكفأ لصياغة القوانين والضوابط والقوالب الإبداعية الكفيلة بصناعة هوية البلاد وبناء هيكلها الصلب من خلال رؤية إدارية دستورية واعية يمكنها بث الحياة من جديد في جسد الأمة العراقية التي أنهكتها الحروب والسياسات الإجرامية لمن كان يديرها.
كانت الانتخابات الأخيرة فرصة لكي يتعظ العراقيون بما جرّته عليهم أيدي صدام حسين الذي حول السلطة التشريعية (المجلس الوطني) إلى دمية مشلولة تهتف باسمه، وحول القضاء إلى أداة لقمع الشعب وتكميم أفواه المواطنين وتصفية الخصوم السياسيين، فيما لم يكن هناك أي رأي حر ولا إعلام فاعل سوى مجموعة من الزيتونيين المسبحين بحمد القائد.
الانتخابات العراقية تعني أن باستطاعة الشعب أن يختار من بين صفوفه مَن يصلح ما أفسده الدهر أو الدكتاتورية أيا كان نوعها، وأن ينتخب مَن يسهم في بناء العراق بعد دماره على يد العصابة الإجرامية اللاإنسانية، وتوفير حكم صالح فذ شريف يقوم على أساس العدالة الاجتماعية وتكافؤ فرص إدارة البلاد أمام الجميع دون استثناء، وأبرز ما يمكن أن تحققه الانتخابات هو اختيار (عقل البلاد وفكرها) أي البرلمان (السلطة التشريعية) الذي بدوره يختار (يد البلاد وجوارحها) أي رئاسة الوزراء والكابينة الوزارية (السلطة التنفيذية) في حين يحدد الدستور (حَكَم البلاد) أي الجسد القضائي (السلطة القضائية) فيما يمارس الإعلام والصحافة دور عين البلاد وصوتها الواضح.
من المؤسف أن الوعي الشعبي بإدارة البلاد لم يسعف العراقيين في أن يتعظوا من تجربة الحكم الديكتاتوري بل بقيت مقاييسهم في النظر إلى السلطة كما كانت: إرادة غيبية لا إرادة شعبية، ومن أبرز ملامح استمرار العراقيين (أدمنوا) اعتبارهم أن رئاسة الوزراء (السلطة التنفيذية) أهم في التغيير من البرلمان (السلطة التشريعية) ومرد هذا الاعتبار إلى أن صدام حسين كان أهم من كل أعضاء المجلس الوطني.
فاليوم لا يزال العراقيون يفكرون أن رئاسة الوزراء والصلاحيات الممنوحة لها أهم من البرلمان ومن الصلاحيات الممنوحة له، وتجد (المتحازبين) يتنافسون ويتعاركون على أيهم يختار رئيس الوزراء من جماعته وكتلته. هذا يعني أن العراقيين لا يزالون تحت سلطة الدكتاتورية، لا لأن الدكتاتور لا يزال حياً بل لأنهم لا يزالون يحملون ثقافة الديكتاتورية ولا تزال مقاييسها سارية المفعول في عقولهم ووجدانهم وسيتعاملون مع السياسيين الحاليين على نهجها، وهو ما سيصنع منهم مستبدين جددا وسيورد العراق الهلاك بعد الهلاك.