صدعنا رئيس مجلس القضاء الاعلى - والمطبلين له من القضاة المنافقين ومن يريدون التزلف اليه - بانه حقق مكاسب في استقلال القضاء ، على اساس انه استقلال حقيقي ، لكن الحقيقة غير ذلك تماما ، اذ ان ما حصل فعلا بعد عام 2003 هو استبدال اسم ( وزير العدل ) باسم ( رئيس مجلس القضاء الاعلى ) واستبدال اسم مجلس صوري يحكمه شخص واحد من ( مجلس العدل ) الى ( مجلس القضاء الاعلى ) ، ولم يتغير الامر واقعيا قيد انمله ، اذ ظل رئيس مجلس القضاء – كفرد - يمارس نفس سلطات وزير العدل وفقا لقانون التنظيم القضائي الموضوع عام 1979 برؤية حزب البعث والمنطق المركزي المطلق في ادارة الدولة بكل مفاصلها. فالقضاء – الان – ليس الا وزارة تابعة بالكامل للسلطة التنفيذية ، يديرها وزير يشغل منصب ( رئيس مجلس القضاء الاعلى ) ، فالقضاء – في واقعه الحالي – وزارة تخضع هي وقضاتها لاوامر الجهات التنفيذية خصوصا رئيس الوزراء ومكتبه اكثر من خضوع الوزرارات لاوامر تلك الجهات ، و تخضع لها بطريقة اوضح واعمق واعظم بكثير من خضوع وزير العدل وقضاته ايام النظام البعثي السابق الى رئيس الجمهورية واوامره ، ولكن بطريقة مختلفة ، فتلك الايام يكون الخضوع عن طريق العمل بسرية تامة من اجل التآمر وحياكة الدسائس وتصفية الخصوم او ترضيتهم باسم القضاء والعدالة ، لكن من خلال الالتفاف على الدستور والقانون والحقوق والحريات ، اما في زمن صدام فكان الامر واضحا معلنا فصدام كان كل شئ وفوق كل شئ . ولم يسمح ( مدحت المحمود ) بظهور اي دور حقيقي لمجلس القضاء الاعلى كمجلس مطلقا ، ولم يلمس احد اثر فيه لجماعية القرار المفترضة فيه كمجلس ، بل ظل مؤسسة ادارية يتحكم بها رجل واحد هو رئيس مجلس القضاء الاعلى ، فهو- في الحقيقة - من يعين اعضاء مجلس القضاء ، وهو من يقيلهم ، وهو من ينقل القضاة ، ويحيلهم الى التحقيق ، وهو السلطة الحقيقية لعقوبة القاضي ، ولو ظهرت في شكل لجان ، او من خلال مجلس القضاء نفسه ، فهو يسيطر على المجلس سيطرة حديدية ، ولا يسمح بصوت معارض له مطلقا ، ولا بانتقاد اي عمل من اعماله ، او الاتيان برأي مخالف لرأيه باي حال من الاحوال ، وتلك حقيقة يدركها القاصي والداني داخل السلطة القضائية وخارجها. وقد نحج هذا الرجل في اجهاض خطوات استقلال القضاء من خلال الالتفاف عليها وتعطيل احكام الدستور في بنية السلطة القضائية ، فقد حولها الى مملكة خاصة ، حينما ابتلع كل السلطة القضائية ووضعها في بطن مكون واحد من مكوناتها هو ( مجلس القضاء الاعلى ) فسلب استقلال كل المكونات داخل السلطة القضائية وجعلها كلها تابعة اليه وتأتمر بامره ، رغم ان الدستور صريح في ان السلطة القضائية مكونات ستة مستقلة من بينها مجلس القضاء الاعلى اضافة الى مكونات خمسة اخرى الى جانبه مستقلة عنه هي المحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز الاتحادية وجهاز الادعاء العام وهيئة الاشراف القضائي والمحاكم الاتحادية الاخرى . فلم يرد نص في الدستور على جعل احد مكونات السلطة القضائية الستة اعلى من المكون الاخر ، كما لم يرد نص على جعل احد رؤساء تلك المكونات رئيسا للسلطة القضائية ، فلا يوجد رئيس للسلطات في الدستور العراقي ، كما لم يرد نص – ايضا - على ربط احد المكونات بالاخر او جعله تابعا او خاضعا لاخر اداريا او رئاسيا ، شأنه شأن مكونات باقي السلطات في الدستور ، فلا يرتبط مجلس الوزراء ( وهو المكون الثاني في السلطة التنفيذية ) برئاسة الجمهورية ( وهي المكون الاول في السلطة التنفيذية ) ولا يتبعه اداريا ، ولا يخضع له باي شكل من الاشكال ، ولكل منهما وظيفته وواجباته وصلاحياته التي يمارسها بطريقة مستقلة تماما عن الاخر ، وانما تربطهما علاقات التعاون والتنسيق فقط ، وكذلك لا يرتبط مجلس الاتحاد ( وهو المكون الثاني في السلطة التشريعية ) بمجلس النواب ( وهو المكون الاول في السلطة التشريعية ) ويتوجب ان يكون لكل منهما مهام وصلاحيات وسلطات يمارسها بمعزل عن الاخر بشكل كامل ، ولو انصبت على عمل واحد كاصدار قانون واحد بمرحلتين . وهذا ما يتوجب ان تكون عليه الحال في السلطة القضائية من خلال استقلال مكوناتها الستة ، الا ان رئيس مجلس القضاء استحوذ بلا وجه حق وخلافا لاحكام الدستور على اهم ثلاث مناصب في السلطة القضائية بعد سقوط النظام السابق - رغم انه من اعوانه - وجمعها كلها بين يديه هي رئيس محكمة التمييز ورئيس المحكمة الاتحادية العليا ورئيس مجلس القضاء الاعلى ، ثم جمع مكونات السلطة القضائية كلها في داخل المكون الاداري في السلطة القضائية ( مجلس القضاء الاعلى ) كخطة جهنمية خبيثة اتاحت له سيطرة دكتاتورية كاملة على السلطة القضائية كلها ، ولم يسمح باستقلال اي مكون منها عنه مطلقا . فاضحت المحاكم - بضمنها المحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز - تحت التأثير والضغط الشديد للادارة القضائية ، وللسلطة التنفيذية والنفوذ الحزبي والسياسي الذي اخضع القضاء كله من خلال اخضاع رجل واحد هو رئيس مجلس القضاء الاعلى ، فكان ذلك هو المقتل التطبيقي لكل خطوات الاستقلال القضائي التي وقعت بعد عام 2003 . لذلك ساءت امور العمل القضائي والعدالة واقعيا ، وتراجعت ثقة الناس والمجتمع بالقضاء ، بعد ان تمكنت السلطة التنفيذية خصوصا رئاسة الوزراء ، واصحاب النفوذ السياسي في الاحزاب الكبيرة ، من اخضاع رئيس مجلس القضاء الاعلى ، فاستعمل ( اي رئيس مجلس القضاء ) سلطته الرئاسية المطلقة غير المحدودة على القضاة فمرر – على خلاف الحق والعدل والقانون – الكثير من القرارات والاحكام واتخذ الكثير من الاجراءات المخالفة للقانون ، فظلمت اناس واستهدف اخرون وافلت مجرمون وارهابيون وقتلة وفاسدون ، واهدرت حقوق للناس والدولة خصوصا في القضايا المرتبطة بالسياسيين بضمنها قضايا فساد وارهاب كبيرة جدا . وحاول مجلس القضاء الاعلى النأي بنفسه - عن بعض الممارسات التي ظهر خللها واضح للجمهو والمتابع العادي – من خلال القاء المسؤولية على المحاكم ، على اساس انه جهة ادارية لا سلطة له على القضاة المستقلين في قراراتهم ، وهذا صحيح نظريا فقط ، وهو ما يتوجب ان يكون عليه الحال ، الا ان الحقيقة غير ذلك لان سلطة رئيس مجلس القضاء الاعلى الرئاسية التي اسسها لنفسه على خلاف الدستور والقانون - من خلال ابتلاعه السلطة القضائية كلها باسم مجلس القضاء الاعلى - الذي روج لكون رئيسه رئيسا للسلطة القضائية خلافا للدستور - جعلته متحكما بكل ما يريد التحكم به من قرارات المحاكم واجتهاداتها ، من خلال الضغط على القضاة واخضاعهم مرة بالعقوبة ومرة بالنقل ومرة برسائل التهديد والوعيد غير المباشرة ، وبالترشيح للمنصب او بعدم الترشيح لها ، ومكان العمل وغيرها ، لذا نهضت قيم وسلوكيات داخل الوسط القضائي تقوم على التملق والتزلف والتقرب من رئيس المجلس والمقربين منه توقيا لشرهم ، واحيانا طمعا في بعض فتات المناصب والايفادات . فضربت قيم الكفاءة والنزاهة والمهنية داخل المؤسسة القضائية كلها ، وحلت محلها معايير التملق والتزلف والخضوع ، او على الاقل السكوت عن الانتهاكات والمخالفات والعيوب الكبيرة والانحدار الكبيرة للقضاء والعدالة في كل مفاصل العمل القضائي .
و غدا ..... للحديث بقية |