سوف لا أدخل في تعريف معجمي للحلال وللحرام ، لأن المجال لا يتسع لذلك ولأن التعريفات في هذا المقام تراثية صرفة ، ولهذا لا يعتد بها في مجال البحث الموضوعي ، إنما المطلوب المتابعة من وجهة نظر عقلية خالصة مؤوسسة على ما في كتاب الله ، من غير الإعتماد على ما يصطلح عليه بالسنة النبوية في هذا الشأن . و سأركز جهدي هنا على المعنى في كتاب الله وعلى الجانب المفهومي للمصطلح في لسان المتفقهة وعبر أستخداماتهم له ، و سوف أخرج قدر الإمكان من كل دائرة هي غير الدائرة القرآنية ، وأعني في كلامي صيرورة المفهوم تشريعاً في المتداول والمحكي ، وللتنبيه سأعيد ما قد قلته سابقاً عن النبي وعن الرسول ، فالخبر النبوي أو ما يروى عن الرسول أو ما ينسب إليهما ، إنما هو و في أحسن الأحوال شرحاً وتفسيراً لكتاب الله ليس إلاّ ، وفي هذه الحالة لا يجوز إعتبار الخبر النبوي تشريعاً أو حكماً يساوي حكم الله في الدرجة وفي الرتبة ، وكما في السابق سنبطل المقولة الرائجة والقائلة : - إن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة - ، إن أريد بها أعتبار محمدا مشرعاً ، فإن كان ذلك كذلك فهذه المقولة باطلة ولا تصح مطلقاً كما ولا تصح إن أعتبرنا بمقدوره التحليل والتحريم ، فهذه القدرة ليست من شؤونه ولا من صلاحيته ، ولكن ان اعتبرنا هذه المقولة بمثابة الإشارة إلى : إن الحلال الذي جاء به محمد من عند الله في القرآن المجيد هو حلال باقي إلى يوم القيامة وكذلك الحرام فهذا الكلام لا بأس به ، وفي ذلك يكون تجريد محمد من صفة المشرع للحلال وللحرام لا زمة من لوازم نبوته ورسالته ، وتركيز الإهتمام على التشريع وحصره بالله وحده وأعتبار ذلك من صفاته الإيجابية . ولهذا تسالم القوم لدى جمهور الفقهاء وأهل الأصول على أن الحليّة هي الأصل الأولى وهذا هو الثابت ، ولذلك قالوا بنفس الإتجاه : إن كل شيء في الكون مباح ، وإما الحرام فهو تلك الصفة الملازمة لمجموعة من الاشياء المذكورة في القرآن المجيد فقط وفقط لا تزيد ولا تنقص ، وذلك لأن شأنية التحريم هي شأنية ذاتية لا تتعلق بسبب أو بقرينة ، فلا يكون الشيء محرماً بسبب أو بقرينة أوبقيد ، ذلك لأن الله حين حرم هذه الاشياء حرمها لذاتها ، ولم يحرمها لعوارضها أو لسبب ناتج عنها ، ومعلوم إن الحرمة لا تتعلق بدين محمد - ص - وحده ، بل هي حرمة ثابتة في كل الديانات السماوية ، وأما ما يُقال عن لحم الخنزير فهو كذلك حرام في الديانة المسيحية ، ولكنهم وتجاوزا ابطلوا هذه الحرمة واستبدلوها إباحةً ، وذلك تبعاً لردة فعل مزاجية ولتضاد معلوم الشأن تجاه اليهودية ، وتلك أزمة تأريخية لسنا بصدد الدخول في حلقاتها ، إنما الذي يهمنا من الأمر ، هو التركيز على ان الحرمة هي ساحة معينة جعلها الله هكذا ودعانا لإحترامها . و الحرمة ليست بمعنى المنع أو عدم الجواز ، ذلك لأن الممنوع له مقتضى وسبب معين وقرينة محددة ومعينة تخرجه من الإباحة وتدخله بباب المنع وعدم الجواز ، أي إن المباح يكون ممنوعاً بسبب أو بقرينة دالة عليه ، فالخمر الذي جاءني السؤال عنه هذه الأيام ليس حراماً إنما هو من الممنوعات ، ومنعه متعلق بسبب ما و نتيجة لعارض ما معين ومحدد ، فلو أنتفى السبب أنتفى المُسبب ، وهذه القضية هي من باب قضايا العلة والمعلول ، التي تنتفي فيها العلة تبعاً لأنتفا المعلول وجوداً وعدماً ، وفي ذلك يشبه الخمر كل القضايا الممنوعة أو المتعلقة بظرف أو بقرينة ، ولهذا نقول : إنه لا يجوز الخلط في مسائل الشريعة في احكام الله ، ولا يجوز أعتبار ذلك من المسائل الشخصية أو الإجتهادية ، فالحلال عند الله هو الأصل ، وأما الحرام فهو تلك الأشياء المذكورة في القرآن حصراً ، ولفظ الحرام لا يجوز تسويقه أو إطلاقه جزافاً كما نسمع ونرى ، وكل الذي نعيشه في حياتنا هو من قبيل المباح ، وأما الممنوع فبقرينة يكون أو بسبب يكون ..
|