تناقش رواية "مجنون الحكم" للروائي المغربي بنسالم حميش، الواقع السياسي والاجتماعي للإنسان العربي المعاصر من خلال الاستفادة من التاريخ العربي وشخصياته أو احدى شخصياته المشهورة، فيما يعرف نقديا بالتخييل التاريخي.
ورواية مجنون الحكم تدور حول سيرة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله الذي تروي عنه كتب التاريخ الأعاجيب. فهو شخصية غريبة وشاذة ومضطربة عقليا، وظالمة ومتعالية على الناس إلى درجة أنها تعتقد في نفسها الإلوهية فتأمر الناس بعبادتها.
وهو يحكم القاهرة لربع قرن يسن خلالها القوانين الغريبة ويلزم الناس بها. ومن بين أغربها قلب المواقيت، والعمل بالليل والنوم بالنهار. ومنع الناس من التجوال في المدينة بعد طلوع الشمس. ومنع الزكاة ليموت الفقراء، فهم ثقل على المجتمع. وهدم الكنائس وإبادة غير المسلمين. ومعاقبة المنجمين والمغنين. ومنع النساء من الخروج أو التطلع من الشرفات والنوافذ.
وكان الحاكم يميل إلى الاعتزال في بعض أوقاته والتأمل. ويقول تهويمات يحب أن يكتبها عنه الناس ويتأولوها. وكان يعاقب بعقوبات غريبة ويعفو لأسباب عجيبة، فهو مثلا يعفو عن المذنبين إذا أضحكه أحدهم أو أدهشه بحكاية.
ومن عقوباته الشنيعة إنه كان يعاقب من يتلاعب بالأسعار في الأسواق أو يخالف قوانين السوق والبيع والتجارة، بأن يسلط عليه عبدا من عبيده أسود قويا طويلا عريضا، يُقال له (مسعود) "فيفعل فيه الفاحشة العظمى، وهي اللواط، في دكانه والناس ينظرون إليه، والحاكم واقف على رأسه".
هل هناك اشنع من هذه العقوبة وأغرب منها؟ ربما، لا..
ولكن السؤال الأهم: هل الرواية معنية بالتأريخ للحاكم أو بإدانة الدكتاتورية مباشرة؟
ثم من يستطيع أن يجزم بصحة المعلومات التاريخية المتوفرة حول الخليفة الحاكم، فقد تكون نتيجة لكره المؤرخين له ولاختلافهم المذهبي والسياسي معه!
الرواية كما يبدو تبحث في المحكوم أكثر من بحثها في الحاكم. وتتحدث عن المحكوم أكثر من حديثها عن الحاكم. فالحاكم من حصة التاريخ. أما الرواية الحديثة فمدارها المحكوم الذي تقسّمه السلطة الفردية الغبية الجاهلة المتخلفة، تقسّمه فكريا ومذهبيا ونفسيا وجسديا، إلى جلاد وإلى ضحية. فهي تقيم نفسها بإخضاع المحكومين لها، وبأيديهم. أي أنها بعبارة أبسط تسلط بعضهم على بعضهم ليكون لها الحكم والنفوذ.
ولكن في مقابل ذلك ما الذي يصيب المحكومين أنفسهم (أو المجتمع)، من تصدع نفسي واجتماعي؟ ذلك ما تحدثنا عنه الرواية ويغفله التاريخ القديم والتقليدي على الأقل.
فهل مسعود هو فعلا مسعود، كما يشير اسمه، بولائه للسلطة وانتمائه إليها وبتسلطه على أجساد الرعية وكسرهم نفسيا، كلهم، حتى من لم يفعل معه الفاحشة، وتمهيدهم ليكونوا خاضعين وراضين بأنواع الظلم والجور والاستبداد الذي يزاوله الحاكم عليهم؟!
التاريخ يسكت عن ذلك ولكن الرواية تحدثنا عنه.
لنعد إلى مسعود من بدايته. إنه عبد أسود قبيح المنظر لا أحد يرضى بشرائه. وكان يرى احتقار الناس له ويشعر به، مما جعله يهرب من مالكه فيفقد المأوى ويتعرض لأذى الناس الذين اجتمعوا عليه ضربا إلى أن كاد يهلك لولا تدخل الشرطة الذين اقتادوه تمهيدا لإرجاعه لمالكه. وحين سمع الخليفة به أمر بإدخاله في خدمته. وأوكلت إليه مهمة معاقبة محتكري السلع والغشاشين.
كان مسعود في البداية مبتهجا بهذه المهمة. فهي تمكّنه من الانتقام لنفسه ممن احتقروه وأهانوه وآذوه. فضلا عن أنها تتصل بالحاكم وبالقوة والسلطة وتجعل الناس يرهبونه. ولكن سرور مسرور لا يدوم. فهو بعد حين سيكتشف أنه ليس سوى أداة بيد الحاكم وأنه ليس جلادا وإنما ضحية مسلطة على الآخرين. فهو يشعر بالذنب ولا يستطيع أن يتخلص من صور ضحاياه متوجعين ومتضرعين وصارخين تلاحقه في نومه، إلى أن يتهاوى من الأرق والقلق، وينتهي بالموت على يد "وفد من الجزارين رفيع المستوى كلفهم الحاكم بأن يفعلوا بمسعود ما فعله بهم أو بزملائهم".
ربما لو كان الحاكم مدنيا لخلّص مسعود من إحساسه بأنه مظلوم، ولعمل على اندماجه في المجتمع. ولكن لأنه دكتاتور فقد فعل العكس، فاستغل عقدة مسعود في تعزيز سلطته. فسلطة الحاكم تقوم على تحويل الجماعة إلى ضحية وجلاد. وكل ذلك على حساب الطرفين وعلى حساب المجتمع، ولمصلحة الحاكم.