جنايات قاتلة

مرّةً، وفي روما التي كانت تُقبل على الانتخابات آنذاك، قال صديق لي، وهو عراقي مغترب مقيم هناك منذ اكثر من ربع قرن: بأن الايطاليين سيثبتون للعالم بأنهم أسوأ شعوب الارض  إن انتخبوا برلوسكوني ثانية . لكن صديقي أخرسته النتائج بفوزه، وسلّم بما جاءت به الصناديق. أتذكر الواقعة تلك ونحن نقرأ نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية من خلال ما أسفرت عنه، لكني لا أقول الذي قاله صديقي، إنما أتحدث عن جملة أسباب أفرزت حقيقة وجوهر الناخب العراقي بغض النظر عن كل ما يقال من تزوير ونكوص في عمل المفوضية أو سوء استخدام السلطة من قبل الحزب الحاكم، وما إلى ذلك من أقوال تصب في مجملها بالضد مما تطلع اليه العراقيون وطالبوا به من تغيير .
  ولا ينبغي لمتابع حصيف، متمعن بالشأن العراقي أن يتهم إرادة الشعب، وعلينا جميعاً التسليم بحقيقة الاختيار، وما نراه ويراه البعض القليل منا في شخص رئيس الوزراء قد لا يراه كثيرون، لا بل هو في نظر البعض الكثير من الشعب ملاك ومنقذ، ونقرأ في صفحات عشاق ومحبّي الرجل ما يذكّرنا بحب البعض من ابناء شعبنا لشخصيات سياسية عراقية كثيرة، فهو في بعض من صوره لا يختلف عن الملك غازي وعبد الكريم قاسم وصدام حسين حتى. الصورة التي تعكس نقطة الجذب التي ينفرد بها الزعيم العراقي، فإذا كان الملك غازي وطنياً وعبد الكريم قاسم أبا للفقراء وصدام حسين حامي حمى اهل السنة لِمَ لا يمكننا تصور نوري المالكي على أنه الزعيم الشيعي الكبير الذي جعل من الطائفة المضطهدة عبر التاريخ العراقي طائفة حاكمة، وقد استعادت به ماضيها كله؟
  وسواء أقبلنا ام لم نقبل، بصورته هذه( المَلاك) في أعين الغالبية الشيعية بغض النظر عن الطرائق غير المشروعة التي فاز بها، فأن الوقت سيكون متاحاً للحديث عن الجانب المعتم من العملية السياسية، بما فيها الممارسة الانتخابية نفسها، ولا نريد استحضار صورة العراقي عبر القراءة الوردية (نسبة إلى علي الوردي) في التخوف من الجديد، وحبه للشخصية التي تتعاطى العنف والخشونة، وتعكزه على الماضي وكلها قراءات صحيحة تنطبق بالتمام على الشخصية هذه. لكننا ينبغي ان نتحدث عن اخطاء قاتلة ارتكبتها بعض الكتل السياسية بما فيها الكتل الدينية-الشيعية نفسها، كذلك الأمر بالنسبة للكتل السنية( العراقية ،الوطنية، متحدون، وحدة أبناء العراق...) التي رأينا تشظيها الكبير والكردية أيضاً( جماعة التغيير) أما الخطأ الذي وقعت فيه كتلة التيار المدني الديمقراطي فهو المروع جداً، وما خسارة مرشح الحزب الشيوعي العراقي جاسم الحلفي إلا المفارقة فيها حقا.
  ويأتي دخول الحزب الشيوعي في البصرة قائمة( تحالف البديل المدني المستقل) كأكبر الاخطاء المحلية فقد تحالف مع جهتين غريبتين عنه في الافكار والتوجهات ( اتحاد رجال الأعمال والحزب الإسلامي) وبقدرة قادر ذهبت الأصوات التي جناها مرشحه عباس الجوراني إلى مرشح الحزب الإسلامي عبد العظيم العجمان الذي استعيض به بعد اغتيال المرشح الرئيسي الشيخ عبد الكريم الدوسري قبل يومين من موعد الانتخابات، حتى بات الشارع المدني يسأل أيعقل ان تذهب أصوات الشيوعيين إلى الإسلاميين ومن ثم ليفوز مرشحهم بمقعد يتيم؟
  وإذا كانت النتائج في البصرة قد أفرزت لنا النموذج الغريب هذا فهي نفسها التي ضاعفت سعر المقعد( 28 ألف صوت) القضية التي أخرجت أسماء مهمة مثل المرشح المهندس عدي عواد قاسم والقاضي وائل عبد اللطيف والنائب جواد البزوني وغيرهم من أصحاب الحظوظ الوافرة . والنتائج ذاتها أدخلت البرلمان أسماء ما كان لها أن تكون في ميزان القوى يوما لولا دخولها القوائم الكبيرة .
  جملة الأخطاء تلك والتي لا يمكن أن نخرج سذاجة وتدني وعي الشارع منها، والممارسة الخبيثة التي مارسها الحزب الحاكم والتي أدت إلى تشرذم الكتل المناوئة له فضلاً عن الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها الكتل المدنية الديمقراطية وراء ما تحقق من نتائج، وراء عودة وتكريس الوجوه القديمة، وراء ما سيجنيه الشعب من ويلات خلال السنوات الأربعة القادمة .