لم تكن فترة انتظار نتائج انتخابات 2010 وما رافقها أقل تعقيداً مما هي عليه هذه الأيام! حيث ينتظر العراقيون نتائج انتخابات نيسان (أبريل) الماضي في غمرة شائعات واتهامات بعمليات تزوير محتملة، بينما تتواصل تجاذبات سياسية وإعلامية تتمحور حول ضرورة تغيير الأوضاع الرسمية لمصلحة المواطنين. إن ما أقلق الأوساط السياسية قبل أربع سنوات هو ذاته ما يقلقها الآن، إنه تشبث المالكي بولاية ثالثة رغم فشل ولايتيه المشؤومتين (2006 – 2014) !
فهذا الرجل يعاني من خِفّة شخصية مترسخة في سلوكه على ما يبدو، فهو لا يكترث لمعاناة العراقيين الناشئة عن عدم مصادقة البرلمان على موازنة 2014 لحد الآن! ولا تهمه مأساة ومعاناة عشرات آلاف العوائل في محافظة الأنبار حيث تدور حرب لا يعرف العراقيون حقيقتها ولا حقيقة عدد ضحاياها، ولا متى تنتهي!
إن خفّة المالكي لا تتعلق بموقف معين بل تشمل مجمل مواقفه وسياسته. فبعد فشل حكومته الأولى، تشبث برئاسة الوزارة بعد انتخابات 2010 مستعيناً بجميع الأساليب غير المُشرّفة، فقد كرّس تخلف الصناعة والزراعة مُحولاً العراق بلداً استهلاكياً خدمة لكبار التجار وهم قادة الأحزاب الدينية أنفسهم! إلى جانب إيران وتركيا إذ نستورد من كل منهما أكثر من عشرين مليار دولار سنوياً، إنه يقديم كلَّ ذلك من أجل كسب موقفهما ونفوذهما الإقليمي والدولي!
ومنهج تحويل العراق بلداً استهلاكياً ينسجم تماماً مع مصالح الغرب ومؤسساته الاقتصادية، خصوصاً وإن تبديد مئات مليارات الدولارات على التجارة الخارجية لإبقاء العراق بلداً متخلفاً وشعباً معدماً يخدم جميع الدول المستفيدة من تخلف العراق وتبديد ثرواته بمن فيها إسرائيل طبعاً !!
إن كل هذا ينسجم تماماً مع خفة المالكي وتهالكه على السلطة، فبعد ترتيب أوراقه مع قادة أحزاب المتحاصصة على تقاسم مغانم السلطة عام 2010، قال وقتها ليبرّر ذلك أمام الرأي العام (يقولون إذا تركنا المالكي يحكم لمرحلة قادمة سيصبح حاكماً من دون منافس، فطمأنتهم وقلت لهم تعالوا نتفق على أن تكون رئاسة الوزارة لا تزيد على 8 سنوات، فإذا كان رئيس الوزراء كفوءاً يستطيع تنفيذ برنامجه خلال 8 سنوات، وإذا لم يكن كفوءاً وليس لديه برنامج فلماذا نعطيه أكثر من 8 سنوات؟ فقلت لهم لنتفق على ثماني سنوات كرئاسة الجمهورية) يقصد كما نص الدستور على تحديد رئاسة الجمهورية بولايتين فقط، مع علمه بأن الدستور لم يُحدد سقفاً لولاية رئيس الوزراء، أي يمكن تكرارها لمرات، وهذا يتناقض مع إمكانية التطور الديمقراطي للدولة لأن تكرار ولاية رئيس الوزراء سيخلق ديكتاتورية في ظل نظام ديمقراطي! وخطأ كهذا أما أن يدل على جهل واضعي دستور 2005 وهم قادة الأحزاب الدينية والكردية، أو إن هناك غرضية واضحة من هذه الصيغة الملتبسة. لكن المالكي يعتبر تصريحاته تلك دليل شطارة مع إنها تدل على إمتهان المكر والمسكنة!!
وإذا كان تناسي المالكي لتلك الوعود وتشبثه الجديد بولاية ثالثة هو دليل إضافي على خفة الرجل وسماجته، فهو أيضاً يدل على تورطه بعمليات فساد واجراءات قمعية وانتهاكات مريعة لحقوق الإنسان، لا يمكن أن يغفرها العراقيون له، ولا يمكن للقضاء أن يتغافل عنها، لذلك فهو يجد أن لا مفر له سوى التشبث بالسلطة حتى النفس الأخير.
لم يفشل المالكي سياسياً فقط، بل صنع دولة فاشلة، ومن جناياته الكثيرة نقرأ هذا الخبر (قالت رئاسة أقليم كوردستان في بيان تلقت وكالة "السومرية نيوز" الاخبارية نسخة منه، إنه "بقرار من رئاسة مجلس الوزراء برقم 93 الصادر في عام 2011 وبناء على طلب نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة حسين الشهرستاني وبحسب كتاب برقم م.خ/398 في 9 /3 /2011، تم إبرام عقود مع عدد من الشركات الوهمية لإنتاج 500 ميغاواط من الكهرباء مقابل مبلغ ستة مليارات و348 مليون دولار امريكي”)!! لم يرد المالكي على هذا الاتهام وقتها، ولم يُحرك القضاء ساكناً حول قضية خطيرة كهذه!
وإذا كانت هذه واحدة من صفقات الفساد غير المسبوقة عالمياً، بل وغير المفهومة لأن المرء لا يعرف حقاً أين يذهب لصوص الدولة هؤلاء بكل هذه الأموال التي لا يمكن إخفاؤها بأية حال، لا داخل العراق ولا خارجه؟! لكن الأحداث اللاحقة سرعان ما كشفت ما هو أخطر، ففي 22-10-2012 نُشر الخبر التالي:(كشف مصدر في لجنة النزاهة بمجلس النواب العراقي أمس أن “إقالة محافظ البنك المركزي سنان الشبيبي كانت ردة فعل سياسية بسبب رفضه إقراض حكومة المالكي 64 مليار دولار من احتياطي البنك المركزي، كانت سَتُهرَّب إلى إيران وسوريا لحل مشكلة إيران الاقتصادية ودعم الحكومة السورية لإنهاء ثورة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد”. وبيّن المصدر إن “الشبيبي كان قد طلب في وقت سابق من مجلس رئاسة الوزراء إقالة أربعة موظفين في البنك المركزي، هم مدير الدائرة القانونية ومدير الدائرة الاقتصادية ومدير دائرة غسل الأموال ومدير دائرة المصارف، ورفض المالكي طلبه بسبب قرب أولائك الموظفين منه)!!
وإذا كان الشبيبي معروفاً بنزاهته ويعتبر من الكفاءات النادرة عالمياً في اختصاصه كمحافظ للبنك المركزي، فقد دفعه المالكي إلى البقاء خارج العراق بعد توجيه اتهامات كيدية له، وقام في 16/10/ 2012 بتكليف رئيس ديوان الرقابة المالية عبد الباسط تركي بمهام محافظ البنك المركزي وكالة! ما يتناقض مع أنظمة إدارة الدولة حيث لا يجوز أن يجمع موظف واحد بين رئاسة ديوان الرقابة المالية ومحافظ البنك المركزي، لإنه يصبح مراقب نفسه وهو يحتل أخطر أجهزة الدولة!
لقد لوحق رئيس هيئة النزاهة السابق، كم مُنع عدد من النواب ترشيح أنفسهم في هذه الانتخابات، لأنهم رفض الخضوع لسلطة الفساد ولرئيس وزراء جعل العراق دولة فاشلة وبغداد أسوأ عاصمة في العالم، وبعد هذا وسواه يريد التجديد مرّةً ثالثة! فهل هناك وقاحة خفة عقل أكثر من هذه ؟!