الأسم: موسى
الأب: جعفر بن محمد الصادق، الإمام السابع عند الشيعة الأمامية
أشهر الألقاب: الكاظم
الكنية: أبو الحسن وأبو إبراهيم
محل وتاريخ الولادة: الأبواء في السابع من صفر سنة 128 ھ الموافق للسادس من شهر تشرين الثاني سنة 745 م
عمره الشريف: 55 سنة
مدة إمامته: 35 سنة
تاريخ وفاته: الخامس والعشرين من رجب سنة 183 ھ، الموافق للأول من شهر أيلول سنة 799 م
سبب وفاته: استشهد بالسم في سجن هارون الرشيد
مدفنه: مقابر قريش (حالياً: مدينة الكاظمية) بغداد، العراق
ولادته
ولد الإمام موسى بن جعفر [ع] في منطقة تسمى الأبواء، منزل بين مكة والمدينة، من أم تسمى حميدة بنت صاعد، وهي أندلسية، يرجع أصلها الى بربر المغرب، وكانت مشتهرة بلقب (المصفّاة)، لقبها بذلك زوجها الإمام جعفر الصادق [ع] حين قال عنها: "حميدة مصفّاة من الأدناس كسبيكة الذهب".
نشأ الإمام [ع] في كنف أبيه، وتولاه برعايته. فأبوه الإمام السادس من أئمة أهل البيت [ع] الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، والذي قال فيه الإمام أبو حنيفة، وهو قطب من أقطاب العلم وإمام أحد المذاهب الأربعة المعتمدة في العالم الإسلامي في الماضي والحاضر: "ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد".
وحيث أنه الإمام المعدّ ليخلف أباه، ظهرت عليه ملامح النبوغ والفطنة وهو صغير السن.
ذكرت المصادر التاريخية أنا أبا حنيفة سأله وهو صغير: "ممن المعصية؟"، وهي مسألة فلسفية اختلف فيها كبار الفلاسفة وكتبوا فيها الكثير من المباحث.
فأجابه [ع] على البديهة: "إن المعصية لا بد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما جميعاً. فإن كانت من الله فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله. وإن كانت منهما فهو شريكه؛ والقويّ أولى بإنصاف الضعيف. وإن كان من العبد وحده فعليه وقع الأمر؛ وإليه توجه النهي، وله حق الثواب العقاب ووجبت الجنة والنار".
القابه
أشهر ألقابه [ع] التي عرف بها هي: الكاظم. وكان يلقب أيضاً بالعبد الصالح، وفي المدينة كان يعرف بزين المتهجدين. أما بعد وفاته، فقد اشتهر بلقب غطى على بقية ألقابه وهو باب الحوائج، لما عرف به [ع] من الكرامات والمعاجز، والدعوات المستجابة.
أولاده
اختلفت المصادر التاريخية في بيان عدد أولاده، وترددت جميعها بين ثلاثين، وسبعة وثلاثين، وأربعين، بين ذكور وإناث. وأشهر أولاده من الذكور هو علي الرضا [ع]، الإمام الثامن الذي خلفه في منصب الإمامة، وهو مدفون في مدينة مشهد المعروفة في إيران. أما أشهر الإناث فهي معصومة [ع]، وقد دفنت في مدينة قم في إيران أيضاً.
حياته قبل مماته
شهد الإمام الكاظم [ع] في حياته التي سبقت إمامته ألواناً من الظلم الذي كانت تمارسه السلطة العباسية ضد بني هاشم، وبالخصوص أهل البيت منهم. فقد شهد كيف يعامل المنصور أبناء عمومته من أبناء الحسن والحسين، وكيف كان يخضعون للتعذيب والتصفية الجسدية على يديه.
لقد كان المنصور من الخلفاء الذين عرفوا بالبطش والتنكيل بمناوئيه، حتى أن السيوطي قد ذكر في كتابه "تاريخ الخلفاء" أنه "قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه".
وكان من فنون القتل عنده أن يدخل مناوئه في إسطوانة البناء ثم يبني عليه وهو حي داخل الاسطوانة.
وقد آلت الأمور أخيراً إلى قتل والده الإمام الصادق من قبل المنصور بالسم في عام 148ھ. لقد عاش الإمام [ع] كل تلك الأحداث، وتعامل معها بالصبر والثبات ورباطة الجأش، وكان جده الإمام الحسين [ع] في ذلك المثل الأعلى الذي يحتذي به.
وهذا هو سلوك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّأوا طرفة عين.
وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله) وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي:
1 ـ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على عناصر الديمومة والبقاء.
2 ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.
3 ـ تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة.
4 ـ تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء.
5 ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته (صلَّى الله عليه وآله).
ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري:
أ ـ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر.
ب ـ أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال; على يد مربٍّ كفوء علمياً ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول (صلَّى الله عليه وآله)، يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته.
ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على الرسول (صلَّى الله عليه وآله) إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتسلّم مقاليد الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين، وتربية للأجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وتجلّى هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بقوله: {إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض}.
وكان أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) بأمر من الله تعالى لقيادة الأمة من بعده.
إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) تمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلى أعماق الأمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله).
فأخذ الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يعملون على توعية الأمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشريعة ولحركة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والأمة جمعاء.
وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الإدلاّء على الله وعلى مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق إليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود.
وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلى أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالى، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ، حتى فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.(1)
ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة ومن هنا برزت شخصية سابع أئمة أهل البيت سيدي مولاي موسى الكاظم(ع) التي سوف نتناول الجزء اليسير ولعلنا نوفق في الإحاطة بهذه الشخصية العظيمة والتي يعجز القلم أن يحيط ببحر جود وعلم وفقه شخصية الأمام روحي له الفداء.
انطباعات عن شخصية الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)
أجمع المسلمون ـ على اختلاف نحلهم ومذاهبهم ـ على أفضلية أئمّة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، وأعلميّتهم، وسموّ مقامهم، ورفعة منزلتهم، وقدسيّة ذواتهم وقرب مكانتهم من الرسول الأعظم(صلَّى الله عليه وآله) حتّى تنافسوا في الكتابة عنهم، وذكر أحاديث الرسول الأعظم(صلَّى الله عليه وآله) فيهم، وبيان سيرهم، وأخلاقهم، وذكر ما ورد من حكمهم وتعاليمهم.
ولا غرو في ذلك بعد أن قرنهم الرسول الأعظم(صلَّى الله عليه وآله) بالقرآن الكريم ـ كما ورد في حديث الثقلين ـ ووصفهم النبي(صلَّى الله عليه وآله) بسفينة نوح التي من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى، ومثّلهم بباب حطّة الذي من دخله كان آمناً. إلى كثير من أحاديثه(صلَّى الله عليه وآله) في بيان فضلهم، والتنويه بعظمة مقامهم.
ونقدّم في هذا الباب بعض الانطباعات ممّن عاصر الإمام الكاظم(عليه السلام) عنه وممّن تلا عصره:
1 ـ قال عنه الإمام الصادق(عليه السلام): {فيه علم الحكم، والفهم والسخاء والمعرفة فيما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم، وفيه حسن الخلق، وحسن الجوار، وهو باب من أبواب الله عَزَّ وجَلَّ}(2).و {إنّ ابني هذا لو سألته عمّا بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم}.(3)
2 ـ قال هارون الرشيد لإبنه المأمون وقد سأله عنه: هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده.(4)
وقال له أيضاً: يا بنيّ هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن جعفر، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا.(5)
3 ـ قال المأمون العباسي في وصفه: قد أنهكته العبادة، كأنه شنّ بال، قد كلم السجود وجهه وأنفه.(6)
4 ـ كتب عيسى بن جعفر للرشيد: لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدّة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقوله في دعائه فما دعا عليك ولا عليّ، ولا ذكرنا بسوء، وما يدعو لنفسه إلاّ بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إليَّ من يتسلّمه مني وإلاّ خليت سبيله، فإني متحرّج من حبسه.(7)
5 ـ قال أبو علي الخلال ـ شيخ الحنابلة ـ: ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به، إلاّ وسهّل الله تعالى لي ما أحبّ.(8)
6 ـ قال أبو حاتم: ثقة صدوق، إمام من أئمة المسلمين(9)
7 ـ قال الخطيب البغدادي: كان سخيّاً كريماً، وكان يبلغه عن الرجل أنّه يؤذيه، فيبعث إليه بصُرّة فيها ألف دينار، وكان يصرّ الصرر: ثلاثمئة دينار، وأربعمئة دينار، ومئتي دينار ثم يقسّمها بالمدينة، وكان مثل صرر موسى بن جعفر إذا جاءت الإنسان الصرة فقد استغنى(10)
8 ـ قال محمد بن أحمد الذهبي: كان موسى من أجود الحكماء، ومن عباد الله الأتقياء، وله مشهد معروف ببغداد، مات سنة ثلاث وثمانين وله خمس وخمسون سنة.(11)
9 ـ قال ابن الساعي: الإمام الكاظم: فهو صاحب الشأن العظيم، والفخر الجسيم، كثير التهجّد، الجادّ في الاجتهاد، المشهود له بالكرامات، المشهور بالعبادات، المواظب على الطاعات، يبيت الليل ساجدا وقائما، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً.(12)
10 ـ قال عبد المؤمن الشبلنجي: كان موسى الكاظم رضي الله عنه أعبد أهل زمانه، وأعلمهم، وأسخاهم كفّاً، وأكرمهم نفساً، وكان يتفقّد فقراء المدينة فيحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم ليلاً، وكذلك النفقات، ولا يعلمون من أيّ جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلك إلاّ بعد موته. وكان كثيراً ما يدعو: {اللّهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب}.(13)
11 ـ قال محمد خواجه البخاري: ومن أئمة أهل البيت: أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصادق رضي الله عنهما، كان رضي الله عنه صالحاً، عابداً، جواداً، حليماً، كبير القدر، كثير العلم، كان يدعى بـ (العبد الصالح) وفي كل يوم يسجد لله سجدة طويلة بعد ارتفاع الشمس إلى الزوال. وبعث إلى رجل يؤذيه صرّة فيها ألف دينار. طلبه المهدي بن المنصور من المدينة إلى بغداد فحبسه، فرأى المهدي في النوم علياً كرّم الله وجهه يقول: يا مهدي (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) فأطلقه.. (14)
مظاهر من شخصية الإمام الكاظم (عليه السلام)
ويكفي لمعرفة وفور علومه رواية العلماء عنه جميع الفنون من علوم الدين وغيرها مما ملأوا به الكتب، وألّفوا المؤلّفات الكثيرة، حتى عرف بين الرواة بالعالم.
وقال الشيخ المفيد: وقد روى الناس عن أبي الحسن موسى فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه.(15)
عبادته وتقواه
نشأ الإمام موسى (عليه السلام) في بيت القداسة والتقوى، وترعرع في معهد العبادة والطاعة، بالإضافة إلى أنه قد ورث من آبائه حب الله والإيمان به والإخلاص له فقد قدموا نفوسهم قرابين في سبيله، وبذلوا جميع إمكانياتهم في نشر دينه والقضاء على كلمة الشرك والضلال فأهل البيت أساس التقوى ومعدن الإيمان والعقيدة، فلولاهم ما عبد الله عابد ولا وحّده موحّد. وما تحقّقت فريضة، ولا أقيمت سنة، ولا ساغت في الإسلام شريعة.
لقد رأى الإمام(عليه السلام) جميع صور التقوى ماثلة في بيته، فصارت من مقوّمات ذاته ومن عناصر شخصيته، وحدّث المؤرخون أنه كان أعبد أهل زمانه(16) حتى لقّب بالعبد الصالح، وبزين المجتهدين إذ لم تر عين إنسان نظيراً له قط في الطاعة والعبادة. ونعرض أنموذجاً من مظاهر طاعته وعبادته:
أ ـ صلاته: إنّ أجمل الساعات وأثمنها عند الإمام(عليه السلام) هي الساعات التي يخلو بها مع الله عزّ اسمه فكان يقبل عليه بجميع مشاعره وعواطفه وقد ورد: أنه إذا وقف بين يدي الله تعالى مصلّياً أو مناجياً أو داعياً أرسل ما في عينيه من دموع، وخفق قلبه، واضطرب موجدة وخوفاً منه، وقد شغل أغلب أوقاته في الصلاة (فكان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس(17)، من مظاهر طاعته أنه دخل مسجد النبي(صلَّى الله عليه وآله) في أول الليل فسجد سجدة واحدة وهو يقول بنبرات تقطر إخلاصاً وخوفا منه:
{ عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك}.(18)
ولمّا أودعه طاغية زمانه الملك هارون الرشيد في ظلمات السجون تفرغ للطاعة والعبادة حتى بهر بذلك العقول وحير الألباب، فقد شكر الله على تفرغه لطاعته قائلاً: {اللّهم إنني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهمّ وقد فعلت فلك الحمد}.(19)
لقد ضرب الإمام المثل الأعلى للعبادة فلم يضارعه أحد في طاعته وإقباله على الله، فقد هامت نفسه بحبه تعالى، وانطبع في قلبه الإيمان العميق.
وحدّث الشيباني(20) عن مدى عبادته، فقال: كانت لأبي الحسن موسى (عليه السلام) في بضع عشر سنة سجدة في كل يوم بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال(21)، وقد اعترف عدوه هارون الرشيد بأنه المثل الأعلى للإنابة والإيمان، وذلك حينما أودعه في سجن الربيع(22) فكان يطل من أعلى القصر فيرى ثوباً مطروحاً في مكان خاص من البيت لم يتغير عن موضعه فيتعجب من ذلك ويقول للربيع: (ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع) ؟!
ـ يا أمير المؤمنين: ما ذاك بثوب، وإنما هو موسى بن جعفر، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال.
فبهر هارون وانطلق يبدي إعجابه.
ـ أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم!!
والتفت إليه الربيع بعد ما سمع منه اعترافه بزهد الإمام وعزوفه عن الدنيا طالباً أن يطلق سراحه ولا يضيّق عليه قائلاً:
ـ يا أمير المؤمنين: ما لك قد ضيّقت عليه في الحبس!!؟
فأجابه هارون بما انطوت عليه نفسه من عدم الرحمة والرأفة قائلاً:
ـ (هيهات: لابد من ذلك!).(23)
ومن هنا نعرف المكانة السامية التي أحتلها سيدي ومولاي أبو إبراهيم موسى كاظم الغيظ(عليه السلام) والتي كان بودنا أن نكتب عنه أكثر وأكثر لأنه مهما كتبنا عنه فأن أقلامنا المتواضعة لاتحيط بسيرة الأمام روحي له الفداء وهي سيرة مشرقة ومتألقة باقية على مدى التاريخ بل تزداد ألقاً وإشراقاً رغم مافعله هارون العباسي من افاعيل ومن كل حاشيته من تعتيم وتزوير ومن مكر سيء لهذه السيرة المشرقة ولكن وكما يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}.(24)
والتي وصلت لحد دس السم وقتله وبأبشع طريقة وفي سجنه في طامورة مغيبة مظلمة لا يعرف فيها الليل والنهار والذي كان في سجن بحيث كانوا السجانين ينادون الأمام الكاظم عند حلول أوقات الصلاة وحلول الليل والنهار وهو مكبل بالقيود والسلاسل الدماء الطاهرة تنزف منه والذي تم اغتياله ومن قبل أحد أشقياء الدهر وهو السندي بن شاهك وبأمر من الطاغية هارون العباسي وهذه هي سيرة أئمتنا المعصومين والذين قال عنهم الأمم جعفر الصادق عنهم {بأن ما منا إلا مذبوح أو مسموم}. ولكن تبقى السيرة الخالدة لأئمتنا والتي لم تحجبها كل غرربيل المجرمين من تزوير وغش لتبقى متألقة ومشرقة وعلى مدى التاريخ وإلى قيام الساعة وظهور أمامنا الحجة المهدي(عج) والذي به يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.
ولنسأل أين قبر هارون العباسي وأين مكانه؟ لنجد أنه قد هلك في أرض طوس وعند مدخل الطبرسي لضريح سيدي ومولاي علي بن موسى الرضا(ع) ليداس بالأقدام وهذا هو مصير كل الطواغيت وعلى مدى العصر فرغن تيجانهم وقصورهم وأموالهم وجاههم ليلقوا في نهاية المطاف وعند هلاكهم أسوا ميتة ولينبذهم التاريخ وليضعهم في أحط مكانة ومنزلة، وفي المقابل تجد ضريح العتبة الكاظمية تصبح لكل العشاق والمحبين وعلى اختلاف مشاربهم ودياناتهم ولتصبح القبة الشريفة تعانق الثريا ولتسجد كل الملوك والتيجان تحت قبته الشريفة.ولتقترن أسم بغداد باسم أسد بغداد أي بغداد الكاظم بعد ان كان الكثير والمخالفين يقرونها باسم بغداد الرشيد وليصبح اسم بغداد الكاظم شوكة تفقأ عيون كل النواصب والمخالفين.
وهذا ماجسده شعر الشيخ عبد الحسين بن قاعد الواسطي الحياوي الذي يرويه خطباء المنبر الحسيني قصيدته في الإمام موسى الكاظم عليهالسلام.
جانب الكرخ شأن أرضك شيّد***قبر موسى بن جعفر بن محمد
بثرى طاول الثريا مقاماً***دون أعتابه الملائك سجد
ضمّ منه الضريح لاهوت قدس***ليديه تلقى المقادير مقود
من عليه تاج الزعامة في الدين***امتناناً به من الله يعقد
قد تجلّى للخلق في هيكل النا***سِ لكنه بقدس مجرد
هو معنى وراء كل المعاني***صوّب الفكر في علاه وصعّد
سابع الصفوة التي اختارها***الله على الخلق أوصياء لأحمد
هو غيث إن أقلعت سحب الغيث***وغوث إن عزّ كهف ومقصد
كان للمؤمنين حصناً منيعاً***وعلى الكافرين سيفاً مجرّد
أخرجوه من المدينة قسراً***كاظماً مطلق الدموع مقيد
حر قلبي عليه يقضي سنينا***وهو في السجن لا يزار ويقصد
مثل موسى يُرمى على الجسر ميتاً***لم يشيعه للقبور موحّد
حملوه وللحديد برجليه***دويٌ له الاهاضب تنهد.(25)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته |