تخيّلوا معي طفلاً لا يملك نقوداً كافية لشراء لعبة ما يتسلّى بها. سيعمد بالضرورة للصراخ والبكاء، يتوسل ابويه ويحاول اقناعهم بشتى الطرق، وحين لا يجد اذناً صاغية يتصرف احياناً بهسترية اكبر، ربما سيمزّق ملابسه ويعبث بشعره او حتى يضرب نفسه بعنف. كل هذا لأنه لا يستطيع الحصول على تلك اللعبة المسلية.
المجتمع كالطفل في هذه الجزئية، إن لم يجد مالاً كافياً سيأكل نفسه ويضرب اقتصاده وامنه وسياسته، وليس ثمة علاج سوى تحسين اقتصاده اولاً، وأي مجتمع يعتمد على الاقتصاد في اصلاح شؤونه اسميه "مجتمع الاقتصاد"
تعالوا معي لنتعرف كيف يصنع مجتمع الاقتصاد بنيته الفوقية حسب المنظور الماركسي، وحتى في الفكر الليبرالي، فالخلاف بينها يكمن في طريقة ادارة الاقتصاد وليس في اهميته. الاثنان يتفقان على اهمية الاقتصاد في خلق مجتمعات قوية ويعطيانه الاولوية في برامجهما.
ففي نظرية البنى الثلاث، الاقتصاد اساسها ثم تأتي بعدها بنية فوقية مكوّنة من ركيزتين اساسيتين، الايديولوجيا والسياسة، وكلما كان الاقتصاد متيناً وقوياً كانت الايديولوجيا رصينة والسياسة عاقلة. ثلاثي رهيب يصنع بدوره مجتمعاً مستقراً غير مضطرب. تعتبر المجتمعات الحديثة الاقتصاد اهم ركيزة من ركائزها، وعليه تتحدد قوتها او ضعفها. فالمجتمع اشبه بالبناية التي اساسها الاقتصاد. لابد ان يكون الاساس عميقاً وقوياً كي يتحمل بعدين آخرين مهمين في صناعة الهدوء والاستقرار في المجتمع، الا وهما السياسة والايديولوجيا. واذا كان الاقتصاد اساس البناية، فالسياسة شكلها الخارجي والايديولوجيا اثاثها الداخلي. وصف ذكي يقول به بعض علماء الاجتماع.
بالاعتماد على اساس بنايتنا القوي والصلب (الاقتصاد)، سنقرّر شكل وحجم وعدد طوابقها (السياسة) وبعدها نقرّر كيف سنؤثث داخلها (الايديولوجيا). كل هذا يعتمد على قوة الاساس فحسب. بانهيار الاقتصاد ينهار اساس بنايتنا وينهار معه شكلها واثاثها اي سياستها وايديولوجيتها. ولهذا تطرّفت المجتمعات الحديثة في رأيها القائل من ان الحل اقتصادي بحت، ولا شيء غير الاقتصاد سيدعم سياسة قوية وايديولوجيا متينة.
هذا التصوّر يعطيها مرونة في تغيير الشكل والاثاث كلما ارادت ذلك. انها مجتمعات حيّة لانها تعتقد من ان التغيير ممكن في بنيتها الفوقية. ممكن لها ان تغيّر اثاثها الداخلي كلما احتاجت لذلك، اي ممكن لها ان تتبنى افكاراً وايديولوجيا مختلفة ومتنوعة، ممكن ان تتعايش مع التنوع والاختلاف. ذلك اثاث فحسب. يمكن لها ايضاً ان تغيّر من شكل بنايتها، تغيّر تصميمه، تهده وتبنيه من جديد، اذ لا ضير من تبنّي سياسة جديدة ومختلفة على الاطلاق ما دامت هي بنية فوقية متغيّرة في الاساس. لكن الاقتصاد يبقى ثابتاً غير متغيّر، فهو الاساس الذي اذا تغيّر تنهار معه البناية كلها ويحصل ما يُسمّى "بالتغيير الراديكالي"، ذلك التغيير الجذري الذي يقلب المجتمع رأساً على عقب وتدخل معه الدولة مرحلة ثورية جديدة مختلفة عن سابقتها.
لا ارى حلاً ناجعاً لمشكلتنا نحن في العراق سوى تدعيم الاقتصاد واعادة هيكلة بنايتنا المنهارة على اساس اقتصادي قوي يكون قادراً على حمل سياستنا وايديولوجيتنا. وحده الاقتصاد كفيل بصناعة سياسة ناجحة وفكر تنويري يحترم الاختلاف والتنوع. ابحثوا عن اقتصادي يضع حجر الاساس لمجتمع الاقتصاد بدلاً من سياسي يبحث في تاريخ عقيم هَجَرَه ابناؤه.
|