بنية الشعب وتأثيرها على الصراع |
هذه محاولة لتحليل الخطوط العريضة لطبيعة الصراع في أي بلد، بين اللاعبين المتواجدين فيه من شعبه وحكومته والقوى المتسلطة فيه والقوى الأجنبية الطامعة في نهبه، ومن خلال محاولة تحديد الصفات الأساسية المميزة لهؤلاء اللاعبين ودور تلك الصفات في إدارة الصراع ونتيجته.
إن نظرنا إلى البلاد بشكل مبسط على أنها كنز، أو مجموعة ثروات، يمتلكها شعب معين، فيمكننا أن نفهم ما يجري فيها من صراعات كما يجري الصراع على اية ثروة في العالم، عالم القراصنة على الأقل، وعالمنا مازال بلا شك عالم قراصنة ولصوص وغزو في خطوطه الرئيسية، كما كان منذ الأزل.
صراع القراصنة مع صاحب السفينة على الكنز يدور على عدة جبهات: الجبهة الداخلية على توزيع حصصه بين الأقوياء وبين باقي الشعب، والجبهة الخارجية، بين كل هؤلاء من جهة وبين جهة أجنبية عدوانية أقوى من الجهة الأخرى. وكثيرا ما تنظم أجزاء من الشعب إلى تلك القوة الأجنبية في هذا الصراع.
من بين تلك القوى المتصارعة، لا شك أن الشعب هو الأضعف بينها، لأنه الأكثر جهلاً، وبالتالي فهو الخاسر الوحيد والذي يتخذ موقفاً دفاعياً بطبيعة الحال، وأفضل ما يأمل به هو أن يستعيد كنزه أو بعضه على الأقل. الجهات الأخرى كثيراً ما تتحالف ضد الشعب، وقد تنظم إليها حكومته التي قد يكون انتخبها لحماية مصالحه. وتتعامل هذه الجهات في معظم الوقت مع الشعب على أنه "مشكلة" يجب حلها، لإبعاده عن المطالبة بحصته من الكنز، فتقوم بدراسة تلك "المشكلة"، أي تحليل صفات الشعب من أجل معرفة نقاط ضعفه وتحديد أفضل الطرق لإبتزازه. ويمكننا فهم الصراع الدائر في اية بلاد إنطلاقاً من هذه الصورة النظرية للشعب والحكومة والأثرياء والأجانب الطامعين في ثروة البلاد.
ماهي أهم مواصفات "الكائن" المسمى "الشعب"؟ إن نظرنا إليه من خارجه، نجد أن "الشعب"، "كائن مشتت" يتكون من عدد كبير جداً من خلايا متفرقة ضعيفة الترابط تتحرك باستقلالية عالية ولكل منها مصالحه الخاصة، هي "الأفراد". و"الشعب" ككيان لا يظهر على قيد الحياة إلا في لحظات نشوء ترابط معين بين هذه الخلايا، يتمثل بوعيها لمصلحة مشتركة معينة، يدفعها إلى العمل معاً، والتصرف بدرجة ما، كخلايا كائن واحد. ولا يبقى هذا الكائن "على قيد الحياة" إلا بقدر ما يبقى ذلك الترابط مستمراً.
تلك الملايين المتناثرة تؤمّن نوعاً من الإتصال عند حدوث أمر ما يثير اهتمامهم، مثل احتجاج على قرار حكومي أو برلماني أو فضيحة لقوات الإحتلال. هذا الإتصال الإفتراضي ضروري لحياة هذا "الكائن".
ومن السهل أن نستنتج أن من مصلحة القوى الأخرى المنافسة على الكنز، أن لا يظهرهذا الكائن على قيد الحياة أبداً إن أمكن. وهذا لا يتطلب قتل أفراده، كما قد نتصور، بل يكفي إبقائهم كأفراد متفرقين، إن كان ذلك ممكناً، وفي هذه الحالة لن يكون ذلك الكائن ميتاً، بل في حالة سبات، وهي كافية لنهب كل ثروته. ومن الطبيعي أن يكون من مصلحة ذلك الكائن أن يكون الأمر على العكس: أن يصحو وأن يبقى كذلك أطول فترة ممكنة، ليضمن حصوله على كنزه، أو جزء منه على الأقل. إن ميزة "الشعب" هي قوته الخارقة المتمثلة بحجمه الكبير القادر على مسح خصومه عن الخارطة، لكنه يعاني من نقطتي ضعف في أساس كيانه. ففي هذا الكيان صفتان تمثلان نقطتي ضعفه الأساسية، وهما: صعوبة تجميع خلاياه الكثيرة، وصعوبة إدامة التجمع لمدة طويلة ما لم يوفر لها ظروفاً خاصة. لذلك يظهر "الشعب" حياً لفترات متفرقة قصيرة، بفعل ما يثير اهتمامه ويجمعه، ليعود بعد كل مرة، متجزئاً إلى "أفراد" تعمل بانفصال عن بعضها البعض.
إن قصر عمر التواصل الذي "يخلق" من الأفراد شعباً، هو من أهم ما يستفيد منه خصومه من طامعين أجانب وكذلك حكوماته التي تعمل لصالح نفسها، للإنتصار عليه. فالحكومة تفهم تماماً أنها إن تمكنت من الإنحناء، فأن العاصفة ستمر سريعاً وسرعان يتحلل هذا "الكائن" ويعجز أن يديم مطالبه وضغطه عليها.
والحكومات بشكل عام، وحتى الديمقراطية منها، تعامل شعوبها بمثل هذه الطريقة، اي كـ "مشكلة". فإذا نهض الشعب بتأثير فضيحة حكومية مثلاً، فإنها تطمئن هذا الكيان المؤقت بأن الحل قادم كما يتمنى، وهي مدركة تماماً أنه غير قادر على الحياة مدة تكفي لمتابعتها للتأكد من ذلك. فتقوم مثلاً بتعيين "لجنة" للتحقيق في الفضيحة فيشعر الشعب عندها بأن الموضوع قد سار في طريقه الصحيح ويفقد الغضب والإهتمام الضروريان لإدامة كيانه، وينحل متبخراً إلى خلاياه المنفصلة ويعود أفراداً لايجمعها شيء وتنسى الموضوع. وحتى إن تذكرت بعض خلايا هذا الكائن موضوع الفضيحة واستشعرت خدعة الحكومة وحاولت استثارة الآخرين عليها مرة ثانية، فستجد الإتصال بهم صعباً جداً، كما ان شدة الإهتمام بمتابعة إجراءات الفضيحة لن تكون ابداً بنفس قوتها الأصلية عندما انتشر خبر الفضيحة لأول مرة. ولا توجد حكومة في العالم لا تستخدم هذه الطريقة، إلا أن مدى استخدامها يتناسب مع شدة قصر دورة حياة الشعب وذاكرته، وفي العراق وظروفه الشديدة القسوة فأن الإهتمام بأية فضيحة ينسى بعد فترة قصيرة جداً، ليهتم الناس بالفضيحة التالية أو الكارثة التالية، لذا تستخدم حكومته تلك الطريقة بإسراف وبلا تحفظ أو قلق من رد الفعل عليها.
في الماضي، وعندما أدركت الشعوب، وبعد الكثير من الآلام والخسائر، الطبيعة العدوانية لحكوماتها، إبتكرت تكنولوجيات مضادة لها، وأهمها الديمقراطية التي هي ليست سوى إعلان عدم ثقته بأية جهة مهما بدت أمينة، وقرار من الشعب بأنه سيتولى بنفسه القرارات المهمة من خلال التجمع والتصويت. سار الأمر على ما يرام، لكن هذا الكائن إزداد حجماً وتشتتاً بشكل لم يعد بإمكانه أن يمارس تجمعه كما كان يفعل في الساحة العامة في أثينا، فاخترع “البرلمان” ليمثله، والذي كلف بمراقبة الحكومة ومنعها من استغلال تشتته لإبتزازه. البرلمان كيان مجزء متكون من أفراد أيضاً، لكنه أقل تشتتاً ويمكنه أن يجتمع بسهولة فلا تترك مصالح الشعب بلا حراسة لفترة طويلة. طبيعي أن الحكومات وبقية منافسي الشعب لن يتركوا لهذه الأداة "المعادية" بالنسبة لهم ان تعمل بشكل جيد، لذلك يسعون دائماً إلى إفراغه من محتواه وتحجيم سلطته وإفساده واختراقه قدر الإمكان بالمرشوين من قبلهم.
لكن هذا لا يكفي. فمقابل الديمقراطية التي اخترعها الشعب، سعى المنافسون إلى السيطرة على مقدراته بأشكال مختلفة، وكان من أهم أدواتهم السيطرة على "الإعلام". فقد أدرك منافسوا الشعب الدور الخطير للإعلام، وأنه العصب الذي يجمع خلايا "الشعب"، كما تربط الأعصاب والشرايين الخلايا وتخلق من تجمّعها، "الإنسان". وهذا الإنسان لا يعود إنساناً (حياً) حتى لو كانت جميع خلاياه حية، إن لم تكن مجتمعة ومترابطة بالشكل الذي نعرفه به. وأدركوا بأن سيطرتهم على ما يجري في هذا العصب تعني سيطرتهم التامة وقليلة الكلفة على هذا الكائن، وإنهائهم للصراع لصالحهم. بذلوا الجهد والمال من اجل السيطرة على الإعلام، وعلى العكس من ذلك لم يكن لمكونات الشعب من الافراد الإستعداد لبذل مثل ذلك الجهد أو المال من أجل سلامة إعلامه من هذه السلطة الخبيثة التي يمكن أن تشله عن عمله الضروري. فالحقائق ليست واضحة لدى أفراد الشعب مثلما هي واضحة لدى خصومه ومنافسيه، وسيدفع ثمن ذلك غاليا. ففي النهاية لن يكون له الفرصة أن يشتري إعلاماً يمثله حتى لو اراد، وسيجبر أن يدفع ثمن الإعلام المضاد الذي يشوه الصورة عليه لتضليله. إنه حين يتردد أن يدفع ثمن الرصاصات التي يحتاجها للدفاع عن نفسه، فسيجد نفسه مجبراً على أن يدفع للمنتصرين عليه ثمن الرصاصات التي سوف يقتل بها يوماً!
يستخدم خصوم الشعب الإعلام الذي تحت سلطتهم لمنع عودته للحياة ككائن، من خلال التركيز على ما يهم الأفراد فقط ويجعلهم مشغولين بأنفسهم واستهلاكهم ولا يجدون الطاقة والوقت لمد الإتصالات فيما بينهم. وإن كان الشعب واعياً لعدوانية من يتسلط علية وإعلامه، ورأى هذا الأخير أن الشعب يمثل خطراً جدياً عليه، فقد يلجأ إلى تقسيمات إحتياطية إضافية لمجاميع الشعب، او ما يسمى بمبدأ "فرق تسد"، والذي يؤمّن أن لا ينهض هذا الشعب كله مرة واحدة، كما يؤمّن إمكانية ضرب الجزء بالجزء الآخر. ولتحقيق ذلك يقدم المتسلطون لجزئي الشعب نظامين إعلامين مختلفين ومتناقضين، فيرى كل من جزئي الشعب عكس ما يرى الآخر، ويتحمس لعكس ما يتحمس الآخر. وقد شرحت ذلك ببعض التفصيل في مقالة بعنوان : " كيف تصمم "قصة شيعية" و "قصة سنية" لكل موضوع؟" (1) بالتحكم بالإعلام، يتحكم خصوم الشعب فيه ويتمكنون من إبقائه في حالة "سبات". لكنهم سرعان ما اكتشفوا إنهم قادرين على الإستفادة من إعادة الحياة إليه بطريقة مسيطر عليها تخدمهم دون أن تكون خطراً عليهم. فهم يختلقون قصة وهمية، أو يضخمون قصة حقيقية، لتجمع الشعب عندما يحتاجون إليه، مثلاً عندما يريدون أن يشنوا حرباً على منافسيهم في الدول الأخرى. وفي هذه الحالة لا يعود شعبي البلدين المتحاربين إلا هراوتين يتضارب بها من يسيطر عليهما، فتحطم هذه الهراوات كل منها الأخرى، وتتحطم بها، دون أن يكون لها ناقة في الصراع ولا جمل. وفي النهاية لا تكاد تميز حال شعب البلد المنتصر عن المنهزم، فكلاهما ينتشر الموت والعوق والفقر فيه، كما حدث في الحرب العراقية الإيرانية وفي الحربين العالميتين وكل الحروب في التاريخ تقريباً. افالهراوات لا تعرف النصر ولا تكسب من الحرب سوى التحطم. لقد كتب أحد الجنرالات الأمريكان الكبار كتاباً، قال فيه أنه كان طيلة حياته مخدوعاً في خدمة أصحاب البنوك وأطماعهم، وهو يقود جنوده في حروب تلك البنوك تحت الشعارات الوطنية.
وعدا الحروب، هناك استخدامات "اقل عنفاً" لظاهرة إيقاظ الشعب تحت السيطرة. فبعد أن كانت التظاهرات والإعتصامات والثورات من أهم أسلحة الشعب التي يستخدمها ليحرر نفسه، فإن خصومه اكتشفوا أنهم قادرون من خلال الإيقاظ المسيطر عليه أن يجلعوه يقوم بها لحسابهم باستعمال شعارات مناسبة وتنظيم إعلامي وإداري، ليتحرك الشعب كالسائر في منامه، وليكتشف متأخراً أنه استغل وأن تلك التظاهرات أو الثورات لم تكن تهدف إلى ما تدعيه، وأن القائمين عليها لم يكونوا يفاوضون الجهة المقابلة على الأهداف التي ادعوها، بل على أهدافهم الخاصة. وقد رأينا في تظاهرات العراق في المنطقة الغربية وغيرها، وكذلك في الثورات الأوروبية الملونة أمثلة واضحة على ذلك. وفي كل مرة تنتهي تلك الفعاليات بخيبة أمل شديدة لمن يقوم بها، ويشعر بأنه خدع تماماً.
وكذلك نرى تطبيقاً جديداً لظاهرة الإيقاظ المسيطر عليه في إنتاج الإرهابيين المستعدين للتضحية بأرواحهم وراء هدف مزيف غير الذي قيل لهم. فهؤلاء ليسوا كما كان يظن، عملاء كذابين يتظاهرون بالعمل من أجل أهداف طائفية متطرفة، بل هم مجاميع تم “إيقاظها” بشعارات قوية تهمها فعلاً ، ثم تمت إدارتها وتسييرها نحو هدف مختلف لا تستطيع التحقق منه، واستعملت كهراوة لا تدرك أين تضرب ومن، وهي خلال كل ذلك مستعدة للتضحية بحياتها من أجل الهدف الموهوم دون أن تعي حقيقته. ولا يختلف هذا السيناريو الحديث نسبياً من حيث المبدأ عن السيناريو القديم للحرب الذي تحدثنا عنه، ففي الحالتين تسير الجموع نحو الموت من أجل شيء تم إيهامها به.
ولا يكتفي المسيطرون على حال الشعب وإعلامه باستخدامه هراوة للحرب الخارجية فقط، بل ايضاً لاستخدامه وبنفس الطريقة تماماً، ليضرب بنفسه، العناصر الأكثر وعياً من خلاياه (أفراده) والتي تحاول أن تنبهه إلى خطورة الحال الذي هو فيه وتسعى إلى تغييره. فينقض على تلك الخلايا ليقضي عليها وسط دهشتها. وهكذا يقوم المسيطرون على "الشعب" الذي فقد الوعي بفقدانه السيطرة على عصبه الإعلامي، باستخدامه من أجل استمرار عبوديته دون أن يدري.
رغم كل تلك الإجراءات والسيطرة فإن الحال قد يفلت من يد المتسلطين. ولتأمين أن لا يعيد هذا "الكائن" تجمعه ويستيقظ في أوقات “غير مناسبة” ومن أجل قضية لا تناسب المتسلطين عليه، فإنهم يراقبون نبض قلبه وسرعة تنفسه بأجهزة تطلق الإنذار فور حدوث مؤشر على استيقاظه غير المسيطر عليه. ويؤمن تلك المهمة بشكل ممتاز ومتزايد، التجسس على وسائل اتصاله الإجتماعي وما يتحدث به. كذلك فهم يفحصون بشكل مستمر صحة تقديراتهم لوضعه، من خلال بالونات اختبار تطلق بين الحين والآخر. وتتمثل بحركات إعلامية تستند إلى أحداث حقيقة أو موهومة، مصممة بحيث يكشف رد الفعل الشعبي عليها، حقائق مهمة عن الشعب وعن ردود فعله المستقبلية على الأحداث الحقيقية، وبالتالي يكونون اكثر استعداداً للتعامل مع تلك الأحداث ومع ردود الفعل الشعبية عليها. ويمكن التعرف على تلك البالونات أحياناً لغرابتها. فإذا رأيت حدثاً أو إعلاماً خارج المألوف ولا يبدو أنه يخدم شيئاً منطقياً محدداً، مثلما تفعل أحداث الحياة الحقيقية وإعلامها، فاعلم أنك على الأغلب أمام بالون اختبار لقياس رد فعلك، أو رد فعل الحكومة أو اية جهة يوجه إليها. كمثل على ذلك، خبر انتشر قبل بضعة سنوات عن إمساك عدد من الأمريكان المسلحين، من ضمنهم إمرأة، في سيارة قرب منزل محافظ بغداد يوماً! وأحياناً تتم إذاعة خبر، (او كذبة واضحة) لا يبدو من مصلحة مصدره أن يذيعه ولا هو مجبر على ذلك. إنهم يتعرفون من خلال تلك التجربة على مدى تردد مثل هذا الخبر في التلفونات بين الناس، وموقفهم منه وما يكشفه عن موقفهم العام، أو مدى استعدادهم لتصديق كذبة من هذا النوع بهذه الدرجة من الوضوح. كل هذا يساعدهم على صياغة أخبارهم وتحديد مستوى أكاذيبهم مستقبلاً ونصحهم لعملائهم بالإقدام أو الإحجام. ولا تقتصر المراقبة طبعاً على بالونات الإختبار المعدة خصيصاً لذلك الغرض، بل أن كل حدث في البلد يمكن استعماله كبالون اختبار.
أكرر هنا أن هذه صورة مبسطة تكتفي بالخطوط العامة، فمن المفيد أن يعي الشعب مواصفات كيانه بخطوطه العريضة، لعل ذلك يساعده على الرؤية وفهم ما يجري وعلى إدراك الصعوبات ووضع آمال أكثر قرباً للواقع ويساعد قياداته على إدارة الصراع بشكل أكثر كفاءة. |