البخلاء الظرفاء ..

من أشهر الكتب في البخل كتاب الجاحظ ( البخلاء ) . تشعر وأنت تقرأه بمتعة حقيقيّة ، فتكاد كلّ صفحة من صفحاته ترسم لك صورة ساخرة لا تنتهي منها عجباً . والبخلاء ظرفاء بطبعهم .. يثيرون الضحك ، ويبعثون على الابتسام !.
ومن أشهر البخلاء هو الجاحظ نفسه ، يتبعه الأديب العربي توفيق الحكيم ، والفيلسوف عبد الرحمن بدوي ، ثمّ كوكب الشرق أم كلثوم .
ومن بخل الجاحظ أنه كان يحسب تمرات الرطب على ضيفه إذا مدّ يده إلى الطبق ويرمقه بنظراته ، ويحلف عليه أن لا يزيد ، فإن ضيوفاً آخرين سيأكلون بعده !. 
وقرأنا عن توفيق الحكيم أنه كان رجلاً بخيلاً ، أقسم أصدقاؤه أنه كان يُخبّئ نقوده في جوربه ، وكان إذا أراد أن يكون كريماً ، فإنه يدعو بمنتهى السخاء كلّ من يعرفه أن يزوره في مكتبه ، ليشرب القهوة على حساب نجيب محفوظ !.
والدكتور عبد الرحمن بدوي كان يمشي عشرات الأميال ولا يركب التاكسي ، وكان يرى أن المعدة بيت الداء فلا بدّ أن تهضم الطعام بالمشي ، وإذا تقابل مع توفيق الحكيم في مطعم ، فإنه يظلّ واقفاً في الباب حتى يطلّ الحكيم ، ويجلس كلاهما معاً على المائدة ، لأنّ الذي يجلس في البداية هو من يدفع !. 
وكانت السيّدة أم كلثوم تتظاهر بالبخل ، ومن الممكن أن تبقى يوماً كاملاً لا تأكل سوى طبق من زيت الزيتون ونصف رغيف من الخبز .
وأعرف أدباء عراقيين أكثر بخلاً من الجاحظ وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن بدوي ، مثلما عرفت نماذج بشرية نادرة في البخل . كان أحدهم يملك ثروة هائلة ، وكان إذا سأله فقير أن يعطيه من مال الله ، دسّ يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير درهم !. 
وأعرف مليونيراً كان رثّ الثياب يمتلك بذلة واحدة لا يغيّرها في الصيف والشتاء ، وكان حريصاً أن يرتدي الملابس القديمة ، معلّلاً أنه يتشاءم من الملابس الجديدة ، وكان يرفض تقديم الشاي للضيوف ، ويقول : إن الشاي ينقص العمر !. 
وللأديب أحمد حسن الزيّات قول بليغ في البخيل ، فإنه ( لا يأكل اللحم إلا مدعوّاً ، ولا يغيّر الثوب إلا مضطرّاً ) .. وعندما مات الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هيدجر أشار إلى زوجته أن تطفئ النور ، وكان يقرا آخر فاتورة كهرباء ، ووجد أن الاستهلاك قد زاد عن المرّة السابقة بضع ماركات !.
وفي العصر العباسي المتأخر شاع في بغداد المثل القائل : ( المال المال وما سواه محال ) ، ومن أقذع الهجاء ما حفظناه من قول ابن الرومي يهجو بخل عيسى بن منصور ، بقوله : 
يُقترّ عيسى على نفسه / وليس بباق ولا خالد ِ 
فلو يستطيع لتقتيره / تنفّس من منخر واحد ِ 
يشقى البخيل بجمع ثروته فلا ينفق منها ديناراً حتى اللحظة الأخيرة في حياته ، ليورثها بعده من ينفقها في بضع ليال .. أموال البخلاء يضيّعها السفهاء !.