عمتي والملك..!

أصبحت نزهتي الوحيدة هي أن أتناول إفطاري الصباحي مع عمتي التي غادرت في الأيام الماضية سنتها الثالثة بعد التسعين وهي ما زالت تمسك حتى اللحظة بمساحة عريضة من لب عقلها في القدرة على حفظ تواريخ ميلاد شجرة العائلة فرداً فرداً وهم بالعشرات ولم يتبدل حالها ونفاذ بصيرتها أو قوة تفكيرها منذ أن أفنت أكثر من 40 عاماً في تدريس علوم الرياضيات لتلاميذ مدارس العراق.
فعندما تقترب بالجلوس منها، يبدأ المكان كله يأمرك بالاقتراب والسماع الى شعاع المحبة المنبثق من عينيها، فضلاً عن وضاءة وجهها وابتسامتها التي تحثك من فورها هي الأخرى على الاستماع إليها وهي تطرق الماضي على أكمل وجه، لتشاركها آمالها وآلامها في أوقات نهضت فيها بالمسؤولية التربوية والأسرية وهي في سن مبكرة.
قبضت عمتي على يدي ونحن على مائدة الإفطار وهي تستقبل يومها الأول من سنتها الرابعة بعد التسعين لتضع خطاها على سُلم النهاية لآخر من علم أجيال العراق ممن مازال على قيد الحياة، وهي تدفع بكلماتها قائلة: لقد استغرقت البارحة في نومِ طويل.. وأنا في غاية سروري كطفل ملقى تحت نور القمر، تكلله الأغصان الكثيفة الملتفة ببعضها والتي كانت هي الأخرى غارقة في الأوراق والأزهار. قلت لها إنه أمرٌ حسن أن يحلم المرء وهو يسترد أنفاسه في حديقة مكتظة بالشجيرات والأشجار في ليلة خالية من الظلمة. تبسمت وأجابتني: إني أفهمك، وهي تتناول قدح من القهوة، بعد أن لمحت في عينيها نظرة ثاقبة تفصح عن ذكريات عظيمة اضطرتها الى التوقف عن تناول قدحها، ثم أخذت تتطلع في وجهي من دون أن ترسم على شفتيها الغارقتين، في لون البن، ابتسامة تذكر، سوى لتجيبني انه لا مكان لي في هذه الدنيا إلا بيتك والعراق! ثم التفتت الى قدحها جانباً وقد أثخنته أخاديد القهوة التي ترسبت في أسفل القدح وهي تحمل ذكريات الماضي وألغَاز الحاضر. أدركت عمتي المستقبل وهي شابكة راحتيها حول ركبتها وتتطلع الى الماضي بعين رأت الدنيا فيها ثلاثة وتسعين عاماً ولم تفقد تلك العين جاذبيتها وألقها ونفاذها! فما كان عليَّ إلا أن أقبل يدها إكراماً وإجلالاً. رفعت عمتي رأسها بوجهها النحيل الفائض بالحيوية لتسرني يوم التقت بصبي صغير، قبل أكثر من سبعين عاماً، كان اسمه، فيما بعد الملك فيصل الثاني! قلت لها كيف التقيت الملك؟ أجابت عمتي، وهي تحدثني في جو مشحون بالذكريات عن الصبي اليتيم والأمل والسماء في ماضي البلاد البعيد، قائلةً: أرسل البلاط الملكي في أربعينيات القرن الماضي برسالة الى مديرة دار معلمات بغداد تلتمس فيها حضور من يرغب من نخبة الطالبات اللواتي سيصبحن معلمات المستقبل، للهو وقضاء ساعات قليلة مع الطفل الأمير او الملك الصغير.
وهكذا سارت الحافلة في يوم ما برفقة مديرة المدرسة الى قصر الرحاب لكي يختلط الملك الصغير مع نخب الشعب من الطالبات وهن يحملن في تلك اللحظة شفرة الاستقبال! سألت عمتي بعد أن أخذني الفضول للتعرف على الشفرة التي زود فيها فريق الطالبات عندما يتم اللقاء بفيصل! أجابت عمتي أن الطفل الأمير كان يحب أن يختبئ خلف الستارة ويفاجئ الجلوس بطلعته البريئة شريطة أن يبدي الحضور خشيتهم المصطنعة ويظهرون دهشتهم له! وهو أمر يبعث السرور في أنفاس الملك الصغير وهي المتعة البريئة الوحيدة التي كان يحبها الملك الصغير فيصل مع زائريه من ضيوف القصر الملكي. كان فيصل يود اطلاع زائريه على آخر اللعب التي يقتنيها من السيارات أو الطائرات أو القطارات وغيرها وهو يشرح لزائريه بشغف وسرور الطفولة كيف تعمل تلك اللعب الآلية! ضحكنا انا وعمتي على بساطة الحياة في العقود السبعة الماضية..
ولكن عمتي توقفت عن الكلام وأصابها الحزن فجأةً لتخبرني عن مصير آخر تلميذ في مدرستها من محلتنا كان قد تعلم على يدها، قبل أن تترك التعليم، وكيف كان من طلائع من سحقتهم الحرب في تلك الحروب العبثية في العقود الماضية. عندها سقطت دمعة عمتي على ضوء الشمس ولمعانها الذي انسحب من طاولة إفطارنا الى الجدار المجاور وهي تستذكر زمنا صامتا، وبإيجاز قاس تاريخا عسيرا لم يبق منه إلا ظل صورته!.