يصف الكثير من الساسة الدستور العراقي بأنه ملغم وكثير الثغرات, والحقيقة إن الدستور العراقي هو نسخة منتقاة من بين أربعة دساتير عالمية لها باعها الطويل في الممارسة الديمقراطية, إلا إن ما زج به من مواد ليتواءم مع انتهازية الكتل السياسية وجهلها في كتابة الدساتير وفي تفسير مواده قد أخرجه بصورة شوهاء, حتى اختلط الأمر ولم يعد بالإمكان التمييز بين ثغرات الدستور وتناقضاته التي زجت به وبين وثغرات العقول التي تفسره, فكان لزاما على العراقيين دفع فاتورة هذا الجهل في التفسير وتفيقهات المواربين بسيل جارف من الأزمات السياسية عطلت معها الحياة العامة وحرفت مسار العملية الديمقراطية عن مسارها الصحيح.
ومع تصويت مجلس النواب على قانون تحديد الفترات الرئاسية برزت أزمة أخرى اختبأت تحت الرماد بانتظار انجلاء أزمة التظاهرات لتتوقد بعد حين وتضع المحكمة الاتحادية أمام اختبار جديد لإثبات استقلاليتها في تفسير المواد الدستورية ومدى انصياعها لرغبات رئيس الوزراء لاستئثاره بالحكم الذي صرح وحتى قبل تقديم الطعن بان المحكمة الاتحادية ستنقض هذا القرار, تسنده في ذلك الحلقة الضيقة المحيطة برئيس الوزراء وأطراف أخرى يرتبط بقاءها على الساحة السياسية ببقائه في سدة الحكم.
ولعل من المفارقات الغريبة التي دأب قياديي ائتلاف دولة القانون على ترديدها هو الادعاء بعدم تضمين الدستور لمادة تحدد عدد فترات ترشيح منصب رئيس الوزراء (لفلسفة ما) وحتى هم يجهلون هذه الفلسفة ( إن وجدت طبعا), فهل من المنطقي أن يتجاهل الدستور تحديد فترة ولايات رئيس الوزراء ذو الصلاحيات التنفيذية الواسعة وفي الوقت عينه يتم تحديد عدد ولايات منصب رئيس الجمهورية الذي لا يعدو كونه منصبا برتوكوليا بلا صلاحيات تذكر؟ المعترضون على قرار تحديد الفترات الرئاسية يستندون إلى جملة من الأسباب المتناقضة مع روح المواد الدستورية, ومنها تعارضه مع "المادة 68" التي حددت اشتراطات الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية, حيث نصت (المادة 77/ أولا :ـ يشترط في رئيس مجلس الوزراء ما يشترط في رئيس الجمهورية، وان يكون حائزاً على الشهادة الجامعية أو ما يعادلها، وأتم الخامسة والثلاثين سنةً من عمره) واشتراطات الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية وفق "المادة 68" هي:
يشترط في المرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون:
أولا :ـ عراقياً بالولادة ومن أبوين عراقيين.
ثانياً :ـ كامل الأهلية وأتم الأربعين سنةً من عمره .
ثالثاً :ـ ذا سمعةٍ حسنةٍ وخبرةٍ سياسيةٍ ومشهوداً له بالنـزاهة والاستقامة والعدالة والإخلاص للوطن.
رابعاً :ـ غير محكومٍ بجريمةٍ مخلةٍ بالشرف.
ثم أضيف شرط آخر للمرشح لرئاسة الجمهورية, حيث نصت (المادة 72/ أولا- تحدد ولاية رئيس الجمهورية بأربع سنوات، ويجوز إعادة انتخابه لولاية ثانيةٍ فحسب), وهذا شرط آخر يجب توافره للترشيح لمنصب رئيس الجمهورية نص عليه الدستور أيضا حدد بموجبه عدد الفترات لمنصب رئيس الجمهورية بما لا يزيد عم فترتين إضافة إلى "المادة 68" المذكورة من شروط, وهذا يعني بديهيا إن لا ولاية ثالثة لرئيس مجلس الوزراء ما دام الترشيح لمنصب رئيس مجلس الوزراء بنفس شروط الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية, حيث تكون الشروط المطلوبة في رئيس الجمهورية هي ذاتها الواجب توافرها في رئيس مجلس الوزراء كما إن "المادة 77/ أولا" لم تحصر الشروط في "المادة 68" فقط وإنما جميع ما يشترط على منصب رئيس الجمهورية، وان الأخذ بالمعنى الضيق لكلمة الشروط وحصر معناها بما جاء في "المادة 68" فقط واغفال ما جاء في "المادة 72/ اولا" يعني الانتقائية في الأخذ بمواد الدستور وتجاوزا على مبادئه, وبالتالي فان قرار مجلس النواب لم يتعارض مع النصوص الدستورية لان تحديد الفترة الرئاسية لرئيس مجلس الوزراء هي محددة أصلا في الدستور, بالإضافة إلى ان القانون قد عالج منفذا آخر نفذ منه رئيس الوزراء بعد انتهاء دورته الانتخابية الماضية, وهي اعتبار الحكومة كاملة الصلاحيات حتى بعد انتهاء ولاية عمل مجلس النواب بدلا من اعتبارها حكومة تصريف أعمال في حالة لم تحدث في جميع الأنظمة البرلمانية في العالم إلا في العراق, استغلها رئيس الوزراء في العمل على تدعيم نظام حكمه.
إن المأزق الحقيقي الذي تمر به العملية السياسية يكمن في وقوع الدستور ضحية للانتقائية والتفسيرات الكيفية لساسة نافذون سلطويون سهل مهمتهم الآخرون من الساسة دون قصد بجهلهم ما تضمنه الدستور من مواد وماهية تفسيراته لتمرر عبرهم المواد الدستورية مشوهة ومغلوطة وما عليهم إلا الإذعان والإقرار بها, وإذا ما نقض هذا القرار مع وجود هذا التفسيرات اللامنطقية فان لا احد يضمن ما سيقدم علية رئيس الوزراء من قرارات بعد انتهاء هذه الدورة الانتخابية للبقاء في سدة الحكم بعيدا عن رقابة السلطة التشريعية, وليس أمام مجلس النواب سوى سحب الثقة منه فالغالبية التي صوتت على القرار تؤهله لسحب الثقة من الحكومة واعتبارها حكومة تصريف أعمال وهذا أفضل لتصحيح مسار العملية الديمقراطية.
خالد الخفاجي
رئيس الرابطة الوطنية للمحللين السياسيين