الحرية .. كلمة
لم يلتفت كاتب إلا نادراً ليرسم لنا صورة قلمية عن فيضان دجلة . هذا النهر العظيم الذي ينام في أمواجه وسواقيه كل الحزن العراقي الجميل ، والمساءات ، والخلاخيل ، ومكاتيب الهوى ، وقصص الأشواق ، والأحلام المؤجلة ، والأسرار والأساطير ، والأغاني والمقامات . الأنهار العظيمة تخرج عن صبرها كلما شعرت بالامتعاض والأوجاع والمرارة والاغتراب والإحباط ، وتغضب كما البشر ، فإذا غضبت لن تبقي ولن تذر . ستبتلع كل ما يقع أمامها لتصحيح هذا العالم ، وليتعلم درساً من دروس الحرية . يقيناً إن دجلة من أقدم الأنهار العنيدة في التاريخ ، فاتحة وخاتمة العصور التي تختلّ أمامه المعادلات ، وحافظ أمين لذاكرة ومستندات أحداث تستحق العبرة والاعتبار ، وعلى صخوره العالية انكسرت الأزمنة والدهور من ألفية إلى ألفية ، ومن عصر إلى عصر ، وتحطمت جماجم الطغاة ، وداس بعضهم على رقاب بعض ، وكتبت الإنسانية قصتها تلك الأكثر دهشة والأرفع قيمة . ليس من المبالغة القول إن القوى السياسية العراقية تتأرجح على الموج ، وبعضها تغوص في طين القاع . لم يعد أحد يستطيع السباحة في أمان ، كيف النجاة من الطوفان والتحوط بالسلامة ؟ وهل هنالك من منقذ يقوم بدور سيدنا ( نوح ) عليه السلام يحمل الأجناس في فلكه المنجي من الغرق إلى الضفاف الآمنة حتى ينحسر الماء ويغيض ، ويمدّ الجسور للعبور ؟!. هناك اضطراب في ضبط الحساب . هناك تصلب في شرايين الحياة . نحن لا نعرف مثلاً ماذا بعد هذه الشلالات الهادرة من الاحتجاجات ؟ هذه المطالب الشعبية غير مسبوقة تحتاج إلى إسعافات وضمادات واستجابات عاجلة وضرورية ونوع من المراجعة بأسلوب مستنير لا إلى حالة من الإنكار ، وإلا فإننا سنكون أمام رياح عاتية تأخذنا على حين غرّة إلى بحر الظلمات ، إذا تذكرنا السيناريو السوري وأن العراق ليس ظاهرة منعزلة لا يتأثر برياح التغيير في محيطه العربي والإقليمي ؟ القصة ما زالت في بدايتها . النهايات تختلف دائماً عن البدايات . ماذا بعد سحب الثقة عن الحكومة ؟ ماذا بعد حلّ البرلمان ؟ ماذا بعد التغيّير القادم في سوريا ؟ ما الخيارات البديلة لمستقبل أفضل ؟ ماذا تعني الحرب الطائفية داخل وطن واحد ؟ تبدو الأسئلة مرتبكة في هذه اللحظة الفارقة ، ولا أحد منّا يملك جواباً على سؤال . لا بدّ أن نعترف أن الرحلة لن تكون سعيدة . مخطئ من يظنّ أن في مقدوره الهروب من الحقيقة بالإنكار . أوَ ليس من حقنا أن نتخوّف ونرتبك من فتنة جديدة ؟ لماذا نعتمد دائماً على منطق الإزاحة الفيزياوي إما أنا ، أو ليهلك الآخرون .. إمّا السلطان وإمّا الطوفان ؟. قراءة التاريخ ليست قراءة في فنجان . أخشى إذا بقينا على هذا الحال فالطوفان الكاسح آت مهما تأخر . سيجرف في هديره واندفاعه وتلاطم أمواجه مدناً وخرائط ، ولن ينجو المستبدّون ولاعبو القمار السياسي من الغرق . لن يستطيع أحد منهم الهبوط إلى ظهر السفينة . سيثبت دجلة إنه سلطان لا يدانيه سلطان . آنئذ لن ينفع إغلاق النوافذ ، والاعتصام بدولة من دول الجوار ، فهل يقرأ من يعنيهم الأمر ؟!.
|