التعذيب جريمة ضد الإنسانية

إلى حد ما، تتداخل الجرائم ضد الإنسانية مع الإبادة وجرائم الحرب. ولكن الجرائم ضد الإنسانية تتميز من الإبادة في أنها لا تتطلب قصداً لـ "تدمير جزئي أو كلي"، كما هو وارد في اتفاقية الإبادة لسنة 1949، بل تستهدف فقط جماعة معينة وتنفذ سياسة انتهاكات "واسعة ومنظمة". وتتميز الجرائم ضد الإنسانية من جرائم الحرب أيضاً في أنها لا تطبق فحسب في إطار الحرب، بل في زمن الحرب وزمن السلم.

وتعني الجرائم ضد الإنسانية تلك الجرائم التي يرتكبها أفراد من دولة ما ضد أفراد آخرين من دولتهم أو من غير دولتهم، وبشكل منهجي وضمن خطة للاضطهاد والتمييز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمد ضد الطرف الآخر، وذلك بمشاركة مع آخرين لاقتراف هذه الجرائم ضد مدنيين يختلفون عنهم من حيث الانتماء الفكري أو الديني أو العرقي أو الوطني أو الاجتماعي أو لأية أسباب أخرى من الاختلاف.

وغالبًا ما تُرتكب هذه الأفعال ضمن تعليماتٍ يصدرها القائمون على مُجْرَيَات السلطة في الدولة أو الجماعة المسيطرة، ولكن ينفذُها الأفراد، وفي كل الحالات، يكون الجميع مذنبين، من مُصَدِّرِي التعليمات إلى المُحَرِّضين، إلى المقْتَرِفين بشكلٍ مباشر، إلى الساكتين عنها على الرغم من علمهم بخطورتها، وبأنها تمارَس بشكلٍ منهجيٍّ ضد أفراد من جماعة أخرى. (وليم نجيب جورج نصار، مفهوم الجرائم ضد الإنسانية، في القانون الدولي_ مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت- 2009.

ويعتقد الأستاذ "شريف بسيوني" أستاذ القانون ومدير مركز العدالة الجنائية الدولية ومراقبة الأسلحة في جامعة دوبول في شيكاغو - الجرائم ضد الإنسانية، أن (الجرائم ضد الإنسانية موجودة في القانون العرفي الدولي لأكثر من نصف قرن ومشار إليها في محاكمات بعض المحاكم القومية. وأشهر هذه المحاكمات محاكمة بول توفييه وكلاوس باربي وموريس بابون في فرنسا، ومحاكمة آيمر فنتا في كندا..

ويرى "شريف بسيوني" أن الجرائم ضد الإنسانية تشكل قاعدة من قواعد القانون الدولي لا يمكن الانتقاص منها. وهذا يعني أن الدول جميعاً يمكنها ممارسة سلطتها القضائية في محاكمة منفذ الجريمة بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة. ويعني أيضاً أن من واجب الدول كلها المحاكمة أو تسليم الجاني، وأن أي شخص متهم بتلك الجريمة لا يستطيع طلب "استثناء" من التسليم لأن "الجرم سياسي"، وأن من واجب الدول مساعدة بعضها بعضاً في تقديم الدليل الضروري للمحاكمة. ولكن ما له أهمية كبرى أن أي منفذ لجريمة لا يستطيع الدفاع عن نفسه بالزعم أنه كان "يطيع أوامر أعلى" وأن أي نظام أساسي يقيد ذلك موجود في قوانين أية دولة لا يمكن تطبيقه. وأخيراً، لا أحد محصن من المقاضاة على مثل تلك الجرائم، حتى وإن كان رئيس دولة.

(ففي العراق.. وفي ظل النظام السياسي الجديد، صدر قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لسنة 2005 الذي نص في المادة (1) منه على تأسيس محكمة جنائية عليا تتمتع بالاستقلال التام، وتسري ولايتها على كل شخص طبيعي، سواء أكان عراقيا، أم غير عراقي مقيم في العراق، متهم بارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المواد (11، 12، 13، 14) من هذا القانون، والمرتكبة من تأريخ 17/7/1968 ولغاية 1/5/2003 في جمهورية العراق أو في أي مكان آخر، وتشمل جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، وأيضا الجرائم ضد الإنسانية، وتعني الجرائم ضد الإنسانية لأغراض هذا القانون أياً من الأفعال المرتكبة في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بهذا الهجوم. (قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لسنة 2005).

وفي هذا السياق أيضا، وبالنظر إلى تنامي العمليات الإرهابية في العراق كماً ونوعاً، وجسامة الأضرار البشرية والمادية الناجمة عنها التي وصلت إلى حد تهديد وحدة الشعب العراقي وتمزيق نسيجه الاجتماعي، صدر قانون مكافحة الإرهاب رقم (13) لسنة 2005، الذي عرّف الإرهاب في المادة (1) منه بأنه (كل فعل إجرامي يقوم به فرد أو جماعة منظمة استهدف فردا أو مجموعة أفراد أو جماعات أو مؤسسات رسمية أو غير رسمية أوقع الأضرار بالممتلكات العامة أو الخاصة بغية الإخلال بالوضع الأمني أو الاستقرار والوحدة الوطنية أو إدخال الرعب أو الخوف والفزع بين الناس أو إثارة الفوضى تحقيقا لغايات إرهابية)، كما تضمن هذا القانون جملة من العقوبات الرادعة تصل إلى حد الإعدام بحق مرتكبي أياً من الأفعال الإرهابية المنصوص عليها في مواده، سواء أكان فاعلاً أصلياً أم شريكا، كما تضمن أيضاً أحكام خاصة بالإعفاء، والأعذار القانونية، والظروف القضائية المخففة (المستشــــار، د. جعفـــــر خزعـل جاسـم المؤمـن، مجلس شورى الدولـة/ وزارة العـدل، 30 آب 2013، مدى أهمية وجود قضاء وطني للتعامل مع الجرائم الدولية الواردة في نظام روما).

فهل تعد جريمة التعذيب التي تمارس ضد الأفراد والجماعات من قبل السلطات العامة أو موظفيها، أو من قبل أفراد وعصابات ضد أفراد يختلفون معهم في الرأي والمعتقد والتوجه جريمة ضد الإنسانية، وكيف يمكن فهمها وتطبيقها في ظل الظروف الراهنة من الانتهاكات الواسعة التي يتعرض لها الأفراد والجماعات..؟

جاء أول ذكر للتعذيب كجريمة ضد الإنسانية في قانون رقم (10) لسنة 1945 لمجلس الرقابة على ألمانيا لمحاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية من القادة الألمان. وقد اشتمل القانون على عدة مواد أهمها المادة (6/ ج) التي عرفت الجرائم ضد الإنسانية بأنها "الفظائع والجرائم التي تضم بشكل غير حصري القتل العمد، الاسترقاق، الإبعاد، السجن، التعذيب، الاغتصاب، أو أيا من الأفعال اللإنسانية المرتكبة ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، أو الاضطهاد لأسباب سياسية، أو عرقية، أو دينية، سواء كانت هذه الجرائم تشكل انتهاكا للقوانين الداخلية التي ارتكبت فيها أم لم تشكل ذلك".

كما نصت المادة الخامسة من تعريف الجرائم ضد الإنسانية في نظام المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة على أنه "سوف تمارس المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة الاختصاص بمقاضاة الأشخاص المسئولين عن الجرائم التالية عندما ترتكب في النزاعات المسلحة سواء كانت ذات طبيعة دولية أو داخلية، أو تكون موجهة ضد أية مجموعة من السكان المدنيين:1. القتل العمد. 2. الإبادة. 3. الاسترقاق. 4. الإبعاد. 5.السجن. 6. التعذيب. 7. الاغتصاب 8. الاضطهاد".

وأصدر مجلس الأمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لراوندا عام 1994م لمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وقد تضمن نظام المحكمة في المادة (3) منه تعريفا للجرائم ضد الإنسانية ومنها 6-التعذيب) وجاء في المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي جاء نصها كما يلي: 1.لغرض هذا النظام الأساسي، يشكل أي فعل من الأفعال التالية "جريمة ضد الإنسانية" متى ارتكب في إطار "هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم، و- التعذيب...)، ولكن ما هو التعذيب الذي يعتبر جريمة ضد الإنسانية؟.

لقد عرف التعذيب الذي يشكل جريمة إنسانية في المادة (7 –ف2) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي جاء نصها كما يلي: وجاء في 2 من نفس المادة (ﻫ- يعني "التعذيب" تعمد إلحاق ألم شديد أو معاناة شديدة، سواء بدنيا أو عقليا، بشخص موجود تحت إشراف المتهم أو سيطرته). ولكن لا يشمل التعذيب أي ألم أو معاناة ينجمان فحسب عن عقوبات قانونية أو يكونان جزءا منها أو نتيجة لها.

كما عرفت اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة التعذيب في المادة 1- (1- لأغراض هذه الاتفاقية، يقصد 'بالتعذيب' أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في انه ارتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأى سبب يقوم على التمييز أياً كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها.

وبالنظر لجسامة جريمة التعذيب وأثرها على المجتمع الإنساني، فقد أصبح من المبادئ العرفية المستقرة في القانون الدولي لحقوق الإنسان هو تحريم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنة. وقد تضمنت اتفاقيات حقوق الإنسان العالمية والإقليمية نصوصا تقر هذا المبدأ. ولان (تحريم التعذيب وغيره من المعاملة القاسية) حظي بمكانة على مستوى القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي الجنائي، فقد أضحى مبدأ ملزما لسائر الدول، سواء كانت تلك الدول أطرافاً في الاتفاقيات الدولية التي نظمته أم لا.

في عام 1987 تم تشكيل لجنة مراقبة ومنع التعذيب التابعة للأمم المتحدة والتي تضم في عضويتها 141 دولة، وبالرغم من توقيع العديد من الدول على هذه الاتفاقيات إلا أن توقعات منظمة العفو الدولية تشير إلى أن معظم الدول الموقعة لا تلتزم بتطبيق البنود الواردة في المعاهدات المذكورة، وهناك جدل حول استعمال كلمة "تعذيب"، حيث يتم في بعض الأحيان استعمال تعبير "سوء المعاملة" أو "التعسف" أو "التجاوزات" أو "وسائل قريبة من التعذيب" وخاصة من قبل الجهات التي قامت بعمليات التعذيب.

وتؤكد تقارير العفو الدولية أن أغلب بلدان العالم تستمر في ممارسة التعذيب، بالرغم من أنه تم منعه منعا باتا. فتقرير 2001 لمنظمة العفو الدولية كشف أن 140 دولة مارست التعذيب فيما بين 1997 و2001. كما خلص إلى أن الآلاف يمارسون سنويا، الضرب والاغتصاب والصعق بالكهرباء بحق أناس آخرين.

ومن خلال ما تقدم، فان جملة من الإجراءات والتوصيات التي ينبغي الأخذ بها، من أجل القضاء على جريمة التعذيب الممنهج على المستويين الوطني والدولي ومنها:

1- من الضروري أن تتخذ كل دولة إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية أو أيّة إجراءات فعالة أخرى لمنع أعمال التعذيب على أراضيها. كما يتوجب على القانون الجنائي النظر في أعمال التعذيب باعتبارها جرائم. ولا يسمح باتخاذ الظروف الاستثنائية، مثل حالة الحرب أو خطر الحرب أو عدم الاستقرار السياسي الداخلي أو أية حالة طوارئ عامة أخرى، ذريعة لتبرير التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة. كما أن تطبيق أوامر صادرة من السلطات العليا لا يشرّع بأي حال من الأحوال استخدام التعذيب (اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب المادتين 2 و4).

2- من الضروري أن تتحمل جميع الحكومات مسؤولية ملاحقة المخالفين أمام القضاء في إطار نظام الإجراءات الجنائية الدولية الخاصة بالتعذيب. فمبادئ القضاء الدولي تفرض على كل الدول التي يتواجد بها من يشتبه في ممارستهم التعذيب، أن تقوم بتسليم مرتكبي أعمال التعذيب لتتبعهم قضائيا من طرف الحكومة المعنية (أي البلد الذي مورست فيه الانتهاكات، أو الذي ينحدر منه ضحايا التعذيب أو المخالفون)، أو أن تبادر هي ذاتها بالملاحقة القضائية (اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب المادتين 5 و 6 و 8).

3- من ضروري بمكان إنصاف من يتعرض لعمل من أعمال التعذيب والتعويض العادل والمناسب عنه بما في ذلك وسائل إعادة تأهيله على أكمل وجه ممكن، وحق رفع شكوى يُنظر فيها بنزاهة، وحق المدّعي في الحماية من المساس به نتيجة لشكواه.

لقد أقرت الأمم المتحدة يوما عالميا لمكافحة التعذيب، هو يوم 26 يونيو من كل عام، مناسبة عالمية لأحياء مأساة ضحايا التعذيب في أنحاء العالم، ويتيح هذا اليوم مساندة ضحايا التعذيب كي يؤكد مجددا أنه لا يمكن القبول أو السماح بارتكاب التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وهو يوم يجدد فيه المجتمع الدولي التزامه بالتنديد بمثل هذه الأعمال والسعي إلى الانتصاف لضحايا التعذيب. والأهم من ذلك أن هذا اليوم مناسبة للحكومات كي تتساءل فيه عما إذا كانت تبذل جهودا كافية للحيلولة دون وقوع أعمال التعذيب ولمساعدة ضحاياه، ولمعاقبة الجناة والحرص على عدم تكرار تلك الأعمال.