طبائع المدن ومصير الأوطان

لمدينة تتسم بطبائع ورؤى أهلها.

وكل مدينة تمثل صيرورة مادية لطاقات وتوجهات سكانها أجمعين.

والمدينة كائن حي تتحرك في عروقه الحياة , فتتألق وتتداعى وتتفاعل , لكن المدينة بخصائصها ودلالاتها , تستمر وتبقى تنبض على إيقاع الدوران الأرضي.

وفي الزمن الماضي كانت المدن ذات أسوار , وأنظمة خاصة بها , وتتحرك مسيرة الأيام فيها , وفقا لقراراتها وخرائط السلوك المتفق ومصلحة المدينة وأهلها.

وفي بلادنا مدن كثيرة ذات شأن حضاري وروحي وفكري , ومنها انطلقت بدايات المعارف والعلوم والتصورات , والتحليلات والمدارس بمذاهبها ومشاربها.

وكانت بغداد مدينة ذات أثر كبير في مسيرة الحضارة الإنسانية , ومن ثم سامراء.

وقبلهما مدن غابرة مسافرة في غياهب الحضارات السحيقة في القدم , ما قبل سومر بملايين أو آلاف السنين.

وقد أشرقت المدن في العراق بعد الفتح الإسلامي المبين , فكانت البصرة والكوفة , وبعدها النجف وكربلاء بما امتلكتا من التراث الروحي والمعرفي, والمعاني السامية لرموز الإسلام , وما حصلت فيهما من أحداث وتفاعلات وتداعيات. إضافة إلى مدن أخرى عريقة في شمال البلاد.

والأوطان بمدنها!

فكلما إزدهرت المدن وتطورت , إنعكس ذلك على الوطن الذي يضمها ويتفاخر بها.

وأوطان الدنيا تتألق وتعاصر بمدنها , التي تنامت وامتلكت قدرات التأثير الإقتصادي والثقافي والأخلاقي.

وزيارة أي بلد , تكشف للزائر أنه عبارة عن مدن ذات طاقات فاعلة في الحياة , ومتسابقة بخصائصها وعناوين إرادتها المؤثرة في الحياة الوطنية.

فهذه المدينة لها دور كبير في الصناعة الفلانية , وتلك لها مساهمة في زراعة البرتقال والعنب والتفاح , وتلك مهتمة بصناعة الأدوية , وأخرى بالسيارات , وهذه بطرز عمرانها وتأريخها الطويل وهكذا...

ونحن ربما يغيب عن وعينا المعاصر الدور الوطني للمدن , فلا تجد مدننا تفخر بمميزاتها , وتُظهِر ما فيها من طاقات العطاء والبناء الإبتكار , وإنما تمحق الدلائل والعلامات الفارقة , وتذوب في صياغات بعيدة عن العصر , وتتحول الحركة فيها إلى سعي خاسر وراء موضوعات , لا تؤمّن من خوف ولا تطعم من جوع.

فتتقدم السياسة والسعي إلى المناصب واحتكار الإمتيازات , على إرادة المدينة الحضارية والإبتكارية.

وأية مدينة تجدها بلا خريطة إنطلاق , ودون أهداف واضحة ومعالم متعارف عليها.

وعندما تسأل ماذا يريد أهلها , وإلى أين يتجهون لا تجد جوابا وإنما لغطا!

إنّ الأوطان لكي تتقدم وتعاصر , على مدنها أن تتخلق وتتحقق وتكون , وإنْ لم تساهمْ المدن في صناعة وجودها الوطني والحضاري المعاصر , فأن الأوطان لا تكون.

فالمشكلة ليست في أنظمة الحكم وحسب, وإنما في أنظمة التفكير وآليات الفهم والرؤية , والإدراك والتصور والإنطلاق.

فهل ستحقق مدننا إرادتها وتتسابق في البناء الإقتصادي والثقافي والإبداع الصناعي , وتشد عزمها وتعزز مسيرة الإرتقاء والنماء والإزدهار, لكي يكون الوطن أقوى وأبهى وأزهى , وينعم بالمحبة والأمن والسلام؟!