الجليلة ندباً، والمهلهل والبسوس والمعري استطراداً أروع قصائد الرثاء في الأدب العربي.. الحلقة الثالثة.. كريم مرزة الأسدي |
الرثاء بدأ مع بدايات الإنسان منذ ما يسمى بعصر المشاعية البدائية ، إذْ (ولد ... فتعذب ...فمات ) - هذه الكلمات الثلاث ، مقولة لحكيم صيني كبير ،آمن بها الجواهري ، وصدّر بها ذكرياته - ..فحزن الناس عليه ... ونُدبوه ...ثم ذكره الآخربعد وفاءٍ ، ثم تطور الأمر بمرورالزمان ، فتأمل وتفلسف هذا الآخر وآخرٌ آخر في المعنى من الحياة والممات ، وتحيّر فيما يحلّ بعد الحياة حتى انبثقت الأديان السماوية ، ولك أن تضيف إليها بعض الفلسفات الوضعية ، فحلّت الإشكاليات حسب عقائدها ورؤاها ، ولكن يبقى الناس أجناساً ، والعقل شكّاكاً ،والزمان قلاّباً ، فنرجع لمعرينا ، وهو الرائد الثاني في أدبنا العربي ، يمكن أن يقبله ضمير أمتنا كشاهد مقبول ومقنع ، لِما ذهبنا إليه ، اقرأ تشكّكه : هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت *** ويهود حارت والمجوس مضللهْ اثنان أهل الأرض : ذو عقـل بلا ديــنٍ *****وآخــرُ ديِّـــنٌ لا عقــــل لهْ بل يرفع رأسه للسماء ويتساءَل قائلاً : أنهيتَ عن قتل النفوس تعمداً ***وبعثت أنت لقبضها ملكين؟ وزعمت أنّ لها معاداً ثانياً ***** ما كان أغناها عن الحالين هذا شأن أبي العلاء ، ينطلق في فكره لحظات تحرره وتشككه ، ويعود ليقول لنا بعد أن تقلب الزمان ، ولك أن تقول عندما وصل إلى حافة القبر ، أنقل لك هذه الرواية ، يقول ابن العديم في (بغية الطلب في تاريخ حلب ) : " سمعت العماد ساطع بن عبد الرزاق بن المحسن بن أبي حصين المعري يقول: بلغني أن الناس لما أكثروا القول في الشيخ أبي العلاء بن سليمان ورموه بما رموه به من الإلحاد، سير صاحب حلب قصداً لأذاه، فلما جاءه الرسول بات على عزم أن يأخذوه بكرة اليوم الآتي، فبات الشيخ أبو العلاء تلك الليلة في محرابه يدعو الله ويذكره، ويسأله أن يكفيه شره، وقال لبعض أصحابه أرقب النجم الفلاني فما زال يرقبه إلى أن أخبره بأنه غاب، والشيخ يدعو مستقبلا القبلة. فلما أصبح جاءه الرسول فقال له أبو العلاء: امض فقد قضي الأمر، فقال: وما ذاك؟ قال: إن صاحبك مات، قال: تركته وهو في عافية، قال: إنه قد مات الليلة، فعاد فوجد الأمر كما ذكر، وذاك أنه سقط بيت كان به، وتقصفت الأخشاب فمات، هذا معنى ما ذكره لي أو قريب منه. وقرأت بخط الشريف إدريس بن الحسن بن علي بن عيسى بن علي الإدريسي الحسني قال: أخبرني الشريف النقيب: نظام الدين أبو العباس بن أبي الجن الحسيني قال: حدثني ابن أخت أمين الدولة الشريف القاضي الأفطسي قال: كان الشريف أبو ابراهيم محمد يحضر مجلس معز الدولة ثمال بن صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب، ويحضره المحبرة العباسي من ولد إسماعيل بن صالح وكل واحد منهما فقيه نبيل في المذهب الذي عرف به، وكان المحبرة يدق على أبي العلاء بن سليمان ويكفره ويحض معز الدولة على قتله، فكان معز الدولة يستطلع رأي الشريف أبي إبراهيم فيه، فيقول فيه بخلاف ما يقول المحبرة ويقرظه عند معز الدولة ويرغبه في إبقائه وينشده من أشعاره التي لا يلم فيها بأمر منكر، فجمع المحبرة جماعة من الفقهاء وغيرهم من أهل السنة وصعد إلى معز الدولة وألجأه إلى أن يبعث إليه فيحضره إلى حلب، ويعقد له مجلس يخاطب فيه على ما شاع له من الشعر والتصانيف التي صنفها، فندب لإحضاره رسولا من خاصته، فيقال: إن أبا العلاء بن سليمان صعد في الليلة التي ورد فيها الرسول لإحضاره، وبسط منديلا عليه رماد فوضع عليه خده ودعا الله عز وجل بدعاء الفرج طول ليلته، فلم ينزل إلا ورسول ثان من معز الدولة يقول للأول: لا تزعج الرجل واتركه، فعاد، واتفق في تلك الليلة أن سقط المحبرة من سطوح داره فمات. وغبر على ذلك مدة طويلة وأبو إبراهيم محمد ينتظر الثواب من أبي العلاء على ما كان منه إليه، وكان أبو العلاء لا يمدح أحدا ترفعا وضنا بنفسه وشعره، إلا ما كان من مدحه لنفسه أو أحد من أهل بيته كالقاضي التنوخي، والفصيصي، وما اضطر إليه، فابتدأه الشريف أبو ابراهيم بالقصيدة النونية التي أولها : غير مستحسن وصال الغواني *** بعد ستين حجة وثمان فأجابه عنها بالقصيدة المكتوبة في سقط الزند : عللاني فان بيض الأماني *** فنيت والظلام ليس بفان " . (7) ( البغية) : وإليك مقاطع من القصيدة ببحرها ( الخفيف) ، ولم يدونها صاحب عللاني فإن بيض الأماني ******* فنيت والظلام ليس بفان إن تناسيتما وداد أناس ***فاجعلاني من بعض من تذكراني رب ليل كأنه الصبح في الحسـ**ـنِ وإن كان أسود الطيلسان كم أردنا ذاك الزمان بمـدحٍ ***** فشغلنا بــــــذم هذا الزمان فكأني ما قلت والبدر طفلٌ ***وشـــباب الظلماء في العنفوان ليلتي هذه عروس من الزنـ ***** ـــج عليها قلائد من جمان هرب النوم عن جفوني فيها****هـرب الأمـن من فؤاد الجبان وكأن الهلال يهــــوى الثريـــا ****** فهمـــا للــــوداع معتنقان وعلى الدّهْرِ مِن دماءِ الشّهيدَيْـــــــ *** نِ علِــيٍّ وَنَجْلِه شاهِدانِ فهُما في أواخرِ اللّيْــــــــــلِ فَجْرا *** ــنِ وفــــي أُولَياتِهِ شَفَقَانِ يا ابن مُسْتَعْرِضِ الصّفوفِ ببدْرٍ**** ومُبِيدِ الجُمُوعِ مِـن غَطَفَانِ وجَمالُ الأوانِ عَقْبُ جُـــــــدودٍ ***** كــلُّ جــدّ منهمْ جَمالُ أوانِ أحدِ الخَمْسَةِ الذينَ هُمُ الأغْـ ***** راضُ في كلّ مَنْطِقٍ والمَعاني والشّخوصِ التي خُلِقْنَ ضِياءً ****** قبْـلَ خَلْقِ المِرّيخِ والمِيزانِ قبْلَ أن تُخْلَقَ السّمــاوَاتُ أو تُؤْ ******* مَرَ أفْلاكُـــــهُنّ بالدّوَرانِ تشير هذه الروايات التي نقلها لنا التاريخ الأدبي العربي مع القصيدة العلائية إلى وفاء أبي العلاء ، وكثرة مناصريه ومناوئيه وحاسديه ، واختلاف الناس حوله ، وهذا شأن العباقرة العظام ، وتشككه في شرخ شبابه ، وإيمانه في أواخر شيخوخته ، بل وفاطميته ، وتعلّقه بآل البيت الكرام ، بل تبني الأخبار والأحاديث الغيبية عنهم ، وتمعّن كيف كان المتأثرون به من التصديق بموت من بات يتربص به الأذى والفتك ، إضافة لروع القصيدة الخالدة ، وقارن بين مطلعي القصيدتين العلوية والعلائية ، ستنبهر بالبون الشاسع بين القصيد الفريد ، والنثر الثريد !! ، وهذا كلّه يدعم ما ذهبنا إليه من شكٍّ يدور ، ولحظاتٍ تفور ، وتقلّبٍ للدهور ، وتباينٍ بين أجناس الناس بالقول المأثور!! ولمعرفة بعض ملامح شخصية المعري المشهور ، نكمل بهذه الفقرة ، كما ورد في المصدر المذكور " قرأت في كتاب تتمة اليتيمه لأبي منصور الثعالبي وذكر فيها أبا العلاء المعري فقال: وكان حدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر، وهو ممن لقيته قديماً وحديثاً في مدة ثلاثين سنة قال: لقيت بمعرة النعمان عجبا من العجب، رأيت أعمى شاعرا طريفا يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء؛ وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء والبغضاء ..." (8) يكفينا هذا الاستطراد ، ونرجع للندب المراد !! ونخص ما تبقى من حلقتنا هذه النساء الشاعرات الجاهليات بعصرهنَّ ، وعصر الأجداد ، وهنّ أكثر استعداد بتكوينهن، وعواطفهنَّ ، وإحساسهنَّ ، وشعورهنَّ من زملائهنَّ الرجال ، فما أكثر بكاؤهنَّ ، وندبهنَّ ، وأنتم تعلمون !! وإذا كان يزيد بن خذاق الشني العبدي، من بني عبد القيس الشاعر الجاهلي الذي كان معاصرا لعمرو بن هند - كما يذكر الزركلي في ( أعلامه) (9) . هو أول من ندب نفسه بقوله : هل للفتى من بنات الدهر من واق***أم هل له من حِمَام الموت من راق ؟ قد رجَّلوني وما بالشَّعْر من شَعَثٍ ****** وألبسوني ثيـــــابًا غير أخلاق وأرسلوا فتية من خيرهم حَسَبًا **** ليسندوا في ضريح القبر أطبـــــاقي يذكر صاحب ( الأغاني) " قال أبو عمرو بن العلاء: هي أول شعر قيل في ذم الدنيا " (10) 3 - جليلة بنت مرة (ت 540 م ) تندب حظها وزوجها كليب : أ -ى حرب البسوس بين بكر وتغلب قامت حرب البسوس بين تغلب وبكر ابني وائل من ( 130 – 90 ق.هـ 495 – 535م..) ، وكان من خبرها ما حكاه ابن عبد ربه في العقد الفريد والأصبهاني في الأغاني. وقد تداخل كلام كل منهما في كلام الآخر. يذكر عبد القادر البغدادي في (خزانته ) عن ابن السائب الكلبي قوله : قاد كليب بن ربيعة معداً كلها " وجعلوا له قسم الملك وتاجه، وتحيته وطاعته، فغبر بذلك حيناً من دهره، ثم دخله زهوٌ شديدٌ وبغى على قومه، حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه؛ وكان يحمي من المرعى مدى صوت كلب فيختص به، ويشاركهم في غيره؛ ويجير على الدهر فلا تخفر ذمته، ويقول: وحش أرض كذا في جواري فلا يهاج، ولا يورد مع إبله أحد، ولا توقد نار مع ناره؛ حتى قالت العرب : " أعز من كليب وائل" وكانت بنو جشم وبنو شيبان في دارٍ واحدة بتهامة، وكان كليب قد تزوج جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وأخوها جساس بن مرة؛ وكانت لجساس خالة تسمى ( البسوس بنت منقذ التميمية ) ، جاورت ابن أختها جساساً، وكان لها ناقة يقال لها: سراب، ولهما تقول العرب: " أشأم من سراب " ، و " أشأم من البسوس " ، فمر إبل كليب بسراب وهي معقولة بفناء البسوس؛ فلما رأت سراب الإبل خلخلت عقالها وتبعت إبل كليب فاختلطت بها، حتى انتهت إلى كليب وهو على الحوض معه قوسٌ وكنانة؛ فلما رآها أنكرها فرماها بسهم في ضرعها، فنفرت سراب وولت حتى بركت بفناء صاحبتها، وضرعها يشخب دماً ولبناً، فبرزت البسوس صارخةً، يدها على رأسها، تصيح: واذلاه؟ وأنشأت تقول : لعمري، لو أصبحت في دار منقذٍ *** لما ضيم سعدٌ وهو جارٌ لأبياتي ولكنني أصبحت في دار غربةٍ ***متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل *** فإنك فــــي قومٍ عن الجار أموات فلما سمع جساس صوتها سكنها وقال: والله ليقتلن غداً جملٌ عظيمٌ أعظم عقراً من ناقتك. فبلغ كليباً فظن أنه أراد قتل " عليان " ، وهو فحل كريم له، فقال: هيهات، " دون عليان خرط القتاد " ثم انتجع الحي فمروا على نهر يقال له: " شبيب " فنهاهم كليب عنه، ثم على آخر يقال له: " الأحص " فنهاهم عنه، حتى نزلوا على الذنائب فمر جساس بكليب وهو على غدير الذنائب منفرداً فقال: أطردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشاً؟! فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون. فقال جساس: هذا كفعلك بناقة خالتي قال: أو قد ذكرتها، أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لاستحللت تلك الإبل. فعطف عليه جساس فطعنه فأرداه ووجد الموت فقال: يا جساس اسقني؟ فقال: هيهات، تجاوزت شبيثاً والأحص؟ وروى أن البسوس لما صرخت وأحمت جساساً ركب فرساً له، وتبعه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان، ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحمى، فضربه جساس فقصم صلبه، وطعنه عمرو بن الحارث من خلفه فقطع قطنه، فوقع كليب يفحص برجله؛ فلما فرغ من قتله جاء إلى أهله وأخبرهم بأنه قتل كليباً ثم هرب . " (11) ب - المهلهل بن ربيعة : ولما ظهر قتل كليب وأفاق مهلهل اجتمعت إليه وجوه قومه؛ فاستعد لحرب بكر، وترك النساء والغزل، وحرم القمار والشراب، وأرسل إلى بني شيبان وهو في نادي قومه . فقالت الرسل: إنكم أتيتم عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الإبل؛ فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا كرهنا العجلة عليكم دون الإعذار إليكم؛ ونحن نعرض عليكم إحدى خلال أربع، لكم فيها مخرج ولنا مقنع فقال مرة: ما هي؟ قالوا: تحيي لنا كليباً؛ أو تدفع إلينا جساساً قاتله نقتله به؛ أو هماماً فإنه كفء له؛ أو تمكننا من نفسك فإن فيك وفاءً من دمه. فقال: أما إحيائي كليباً فهذا ما لا يكون؛ وأما جساس فإنه غلام طعن طعنةً على عجل ثم ركب فرسه فلا أدري أي البلاد احتوت عليه؛ وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومه، فلن يسلموه إلي فأدفعه إليكم ليقتل بجريرة غيره؛ وأما أنا فهل هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل فيها فما أتعجل الموت؛ ولكن لكم عندي إحدى خصلتين: أما إحداهما فهؤلاء بني الباقون فعلقوا في عنق من شئتم نسعة وانطلقوا به إلى رحالكم فاذبحوه ذبح الخروف وإلا فألف ناقةٍ سوداء المقل، أقوم لكم بها كفيلاً من بكر بن وائل. فغضب القوم (12) وفذلكة الأفوال جليلة بنت مرة، اخت جساس وزوجة كليب بن ربيعة ، ومعاصرة ليزيد بن خذاق السابق الذكر،ولمّا قتل جساس كليبا،وانصدع بناء الأسرتين المتناسبتين المتجاورتين ، وما فادت الديّات ، ولا حققت الأراء السديدة ، والمساعي الحميدة على أنْ تعود الأمور إلى مجاريها بسبب تصلب موقف المهلهل الذي أصرّ على الثأر لدم أخيه الكليب : ذهبَ الصلح أوْ تردوا كليباً **أَوْ تَحُلُّوا عَلَى الْحُكُومَة ِ حَلاَّ ذهبَ الصلحُ أوْ تردوا كليباً ****أَوْ أُذِيقَ الْغَدَاة َ شَيْبَانَ ثُكْلاَ ذهبَ الصلحُ أوْ تردوا كليباً **** أوْ تنالَ العداة ُ هوناً وَ ذلاَّ ذهبَ الصلحُ أوْ تردوا كليباً *** أَوْ تَذُوقُوا الوَبَالَ وِرْداً وَنَهْلاَ ذهبَ الصلحُ أوْ تردوا كليباً **** أوْ تميلوا عنِ الحلائلِ عزلاَ أَوْ أَرَى الْقَتْلَ قَدْ تَقَاضَى رِجالاً***لَمْ يَميلوُا عَنِ السَّفاهَة ِ جَهْلاً إن تحت الأحجار والترب منه ******* لَدَفيناً عَلاَ عَـــلاَءً وَجَلاً عزَّ وَ اللهِ يا كليبُ علينا *** ****أَنْ تَـــرَى هَامَتِي دِهَاناً وَكُحْلاً الأمور واضحة جلية من شعر الزير ( المهلهل بن ربيعة ) ، لا يحتاج إلى تأويل أو تحليل ،يكرر التأكيد اللفظي خمس مرات بإصرار عجيب ، دون كللٍّ ولا مللٍّ ، ولا تهيبٍّ ، ومع كلّ بيتٍ شرطٍ قاسٍ ، من حلّ الحكومة ، أو ذوق الثكل ، أو نيل الهوان ، أ أو تسليم ... الحلائل ... ج - جليلة بنت مرة تندب زوجها وحظها : كيف تتوقع مصير هذه الجليلة الأميرة الحلوة بنت مرّة ، الثكلى بزوجها ، المبتلية بأخيها ، والأسيرة لحماها وعيالها !! الشاعرة الرقيقة المرهفة الحس ؟!!ما لها إلا البكاء والعويل ، وندب زوجها ، وحظها، ومما زاد الطين بلّة بعد مقتل كليب : اجتمع الرجال لتلقي العزاء ومنهم من رفض العزاء مؤثرا الاخذ بالثأر .. اما النساء فقد اجتمعن واقمن مأتما، فقالت احداهن لاخت كليب، رحِّلي جليلة عن مأتمك، فان قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب. فقالت لها: يا هذه، اخرجي عن مأتمنا، فأنت اخت واترنا وشقيقة قاتلنا .. فخرجت وهي تجر اعطافها، فلقيها ابوها مرة، فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ قالت: ثكل العدد، وحزن الابد، وفقد حليل، وقتل اخٍ عما قليل .. وبين ذين غرس الاحقاد، وتفتت الاكباد امام الاشهاد .. فقال لها والدها : او يكف ذلك كرم الصفح، واغلاء الديات؟ فقالت جليلة: امنية مخدوع ورب الكعبة، أبا البدن تدع لك تغلب دم ربها .. (والبدن جمع بَدَنة من الابل والبقر والماشية ) ) ثم بلغ جليلة ان اخت كليب قالت حين ترحلت جليلة، قالت رحلة المعتدي وفراق الشامت .. ويل غدا لآل مرة من الكرة بعد الكرة فقالت وكيف تشمت الحرة بهتك سترها، وترقب وترها، اسعد الله جدَّ اختي .. (الجد هنا الحظ) .. افلا قالت .. نفرة الحياة وخوف الاعتداء ثم انشأت تقول : يابْنةَ الأقوامِ إن لُّمْتِ فَلا * ** تَعْجَلي باللَّوْمِ حتَّى تَسْأَلِي
فَإِذَا أَنتِ تَبَيَّنْتِ الَّتــي *** عندها اللَّومُ فَلُومِي واعذِلِي
إن تَكُنْ أختُ امرِئٍ لِيمَتْ علَى **جَزَعٍ مِّنها عَلَيهِ فافْعَلي
فِعلُ جَسَّاسٍ علَى ضنِّي بِهِ *** قاطعٌ ظَهْري ومُدْنٍ أَجَلي
لَو بعَينٍ فُدِيَتْ عَيْني سِوَى **** أختها وانفقأَتْ لَمْ أحْفِلِ
تحمِلُ العينُ قذَى العينِ كما *** تَحمِلُ الأُمُّ قذَى ما تَفْتَلي
إنَّني قاتلــــةٌ مَّقتولـــــةٌ **** فَلعلَّ اللهَ أن يرتــــــاحَ لِي
يا قتيلاً قوَّضَ الدَّهرُ بِه **** سَقْفَ بَيتَيَّ جميعًا مِـنْ عَلِ
ورَماني فَقْدُهُ مِن كَثبٍ ***** رَمْيةَ المُصْمَى بِهِ المُستأصَلِ
هَدَمَ البَيتَ الَّذي اسْتَحْدَثْتُهُ ***** وَسَعَى في هَدْمِ بَيْتي الأوَّلِ
مسَّني فَقْدُ كُلَيْبٍ بِلَظًى ******** مِن ورَائي ولَظًى مُّستَقْبِلِي
لَيسَ مَن يَبْكِي لِيَومَينِ كمَنْ ******** إنَّما يَبْكي ليومٍ ينجَلِي
دَرَكُ الثَّائرِ شافيهِ وفـــــي ****** دَرَكي ثـــــأرِيَ ثَكْلُ المثكلِ
لَيتهُ كان دَمـــــــي فاحتلبوا ***** دِررًا مِّنهُ دمـــي مِنْ أَكْحَلي هكذا يوردها ابن رشيق في (عمدته ) ، وقدمها بالآتي : " فانظر إلى قول جليلة بنت مرة ترثي زوجها كليباً، حين قتله أخوها جساس، ما أشجى لفظها، وأظهر الفجيعة فيه!! وكيف يثير كوامن الأشجان، ويقدح شرر النيران ..." . (13) ، ولكن في ( أشعار النساء ) للمرزباني ، إذ يؤكد عند تفديمه للقصيدة ، قوله بسندٍ قوي عن الشرقي بن قطامي، قال: قالت أخت جساس، وهي امرأة كليب الذقتله جاس، وجاءت لتدخل إلى مأتم زوجها كليب. وكانت أخته قد أقامت عليه مأتما فمنعها من الدخول ، وقالت: قتل أخوك أخي. فقالت أخت جساس. أثم يردف رواية أخرى بسند عن أبي هفان، قال: قالت: جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان امرأة كليب بن ربيعة ، ويورد القصيدة بتغيير بسيط في تسلسل أبياتها ، وبعد أن يوردقصيدة الجليلة ، يختم روايته بالخبر الضعيف الذي لا نميل إليه بالمرة لشهرة الشعر لشاعرته الجليلة : " وجدت بخط حرمي بن أبي العلاء قال: محمد بن خلف بن المزربان: بأن هذه الأبيات لفاطمة بنت ربيعة بنت الحارث بن مرة، أخت كليب ومهلهل ابني ربيعة التغلبيين، ترثي أخاها كليباً، وقتله زوجها جساس " ، ربما هذه الرواية الضعيفة ثبتها المحقق ، ومن حقّه أن يدونها ، ومن حقّنا أن لا نصدقها . (14) وأخيراً يجب أن نعترف أنّ رائعة جليلتنا تعد من اجمل القصائد التي تدخل الوجدان العربي ، وتحرك ضميره ، وتلهب جذوات عواطفه وتنفذ إلى قلوب أناسه ، لأنها نُظمت من قبل امر أة في أحلك ظروفها وأقساها. فتفجرت نفسيتها عن خوالج إنسانية لا يحدّها زمان ، ولا يحصرها مكان لولا تباين لغات الإنسان ، والله المستعان على الزور والبهتان !! |