ذكريات أكثر من مؤلمة .. ! حسوني شهيد عراقي من أصل إيراني!!

لا اعتقد أن شعباً مرَّ بفترات مظلمة وعصور قاسية ومراحل مرعبة كتلك التي مر بها الشعب العراقي. ولكننا على الرغم من ذلك نجد أن أغلب العراقيين يتبارون في ذكر الإيجابيات فقط بأحاديثهم، ويتغنون بأمجاد وبطولات شخصيات تأريخية عديدة وبمآثرها وإنجازاتها ومميزاتها، دون أن يذكروا أن التأريخ العراقي ومنذ الأزل قد رصد سلوكيات ومواقف وجرائم بشعة لشخصيات أتصفت بالتسلط والإجرام وتعذيب البشر وتدمير المدن والفساد بما لم يشهد مثيلاً له تأريخ بقية دول المنطقة. ونحن إذ نقر أن من المزايا الحسنة أن نجري موازنة دقيقة وموضوعية وعادلة بين الحسنات دون السيئات، نرى من الضروري أن نتصف بالعدل فنتذكر الصالح والطالح لكي يتعظ من ذلك حكام المستقبل والناس أجمعين.

وسأقدم عبر السطور التالية، صورتين وقعت أحداثهما في العراق وبالتحديد عام 1982، ضمن حملة مكثفة قام بها النظام الديكتاتوري البعثي الحاكم يومذاك، شملت تسفير آلاف العوائل العراقية المنحدرة من أصول غير عراقية أو من "غير المرغوب بهم في العراق"، وبينهم كثيرون ممن سجل آباؤهم او أجدادهم أنفسهم كـ "تبعية إيرانية" وليس كـ "تبعية عثمانية" مثل باقي العراقيين، وذلك تهربا من الخدمة العسكرية أبان حكم الدولة العثمانية، فجاء الأولاد يحملون هذه الصفة دون أن يكون لهم أي دور اختياري في ذلك. لقد تم تسفيرهؤلاء جميعا بعد مصادرة أموالهم وممتلكاتهم وإعدام كل الرجال القادرين على حمل السلاح منهم، ودفنهم في مقابر جماعية. كما رافقت ذلك إعتداءات وحشية على النساء وسرقة مجوهراتهن. لقد عكس تلك المواقف الهمجية لوحات مأساوية يندى لها جبين البشرية.

ان ممارسة عملية التسفير والتهجير القسريين سواء كانت من قبل الأنظمة الحكومية أو الميليشيات أو الأحزاب الدينية المتزمتة هي جرائم دولية تستوجب تدخل المنظمات الدولية والإنسانية مباشرة لإيقافها من أجل المحافظة على كرامة الإنسان وضمان بقاء التنوع الديموغرافي في المدن والمناطق، خاصة بالنسبة لمواطنين يعود تأريخ تواجدهم إلى عصور غابرة لاتقاس بالسنين. وهذا ينطبق على عمليات التخويف والتهجير الداخلي في العراق للشيعة أبان حكم البعث وللسنة والمسيحيين والصابئة والإيزيديين والشبك وغيرهم من أتباع الديانات والمذاهب غير الإسلامية في الوقت الحاضر.


الصورة الأولى


فتح لي باب غرفة الضيوف، التي لم أ دخلها إلا مرة واحدة من قبل ، لأنه اعتاد أن يستضيفني في مكتبه أو في حديقة المنزل أو غرفة الجلوس إن كانت الزيارة عائلية. فتح تلك الباب رغم أنه كان قد ذكر بأنه لوحده في الدار . . دخل قبلي وتبعته ، وبعد أن أنار الضياء لم أجد أمامي سوى أكداس من السجاد "الإيراني" الفاخر وحقائب سفر كبيرة وصناديق خشبية وأثاث مختلفة . . لاحظ استغرابي قبل أن أهم بسؤاله إن كانوا قد قرروا الإنتقال إلى دار أخرى . . قال : أنا في ورطة ! إنها ليست لنا ، بل هي أمانة . . أمانة من نوع خاص. . ثم صمت لبرهة وكأنه كان ينتظر مني تعليقاً . . ثم قال: إنها أثاث جيراننا . . فقد تم تسفير أكثر من عشر عوائل ليلة أمس من شارعنا . . لقد هرع الجميع ونقل ما غلا ثمنه إلينا كأمانة . . لقد كان منظراً بشعاً . . زوجتي لم تتحمل الحالة فتركت الدار مع الأطفال إلى دار أهلها . . ما العمل ؟ . . وأستطرد . . المصيبة الأكبر إنني أعلم أنهم لن يعودوا ، وإن أبلغت عن هذه الموجودات الثمينة فإنني ساتعرض للمساءلة وربما الإتهام بمساعدتي للمسفرين أو سرقة أموالهم . . ليس هذا فقط ، فهناك ما هو أفظع ، لقد سألتنا جارتنا أن نرعى الدواجن في حديقة الدار الخلفية الملاصقة لنا لحين عودتهم ! لقد حاولت وزوجتي أن نرمي ببعض من فضلات الطعام لها من خلف السور إلا أن القفص كان بعيداً . . حتى الدواجن لم تسلم منهم . . الكفرة . "ثم أجهش باكياً ". . الأنذال . . هل تتصور يا صاحبي أنهم قد وضعوا إحدى العوائل في الباص رغم توسل سيدة بأن لها إبناً رضيعاً نائماً في الطابق الأعلى من الدار . . لقد قضينا الليلة نسترق السمع حتى سمعنا صراخه . .
تركت صاحبي بعد أن نصحته بأن يستخدم معارفه المتنفذين ويعلمهم بالحالة لعل أحدهم يتدخل لخلاص الرضيع وإنقاذه . .
في اليوم التالي إتصلت بصاحبي لسماع إخبار الطفل الرضيع وأخباره . . فلم أفلح . . قررت الذهاب إليه رغم علمي بأن شارعهم مراقب من قبل الجهات الأمنية . . دخلت الشارع فلم إلاحظ سيارته . . كان البيت مظلماً . . وقبل أن أضغط على الجرس . . لاحظت أن الشمع الأحمر قد غطى قفل الباب الرئيسي للدار. .لقد سفروهم!



الصورة الثانية


الأسطة هادي كان نجاراً ماهراً ، أشتهر بصناعته لغرف النوم المصنوعة من خشب الصاج . لقد كان إنساناً مؤمناً دمث الأخلاق . إعتاد العرسان الجدد من أهل المحلة أن يقصدوا نجارة " الإيمان " ليحصلوا على تسهيلات الأسطة المالية ، حيث كان يصنع غرف نوم العرسان الجدد بالتقسيط المريح . . وكان يفتخر بأن " تسهيلات أسطة هادي هي أفضل من سلفة الزواج التي كان يمنحها مصرف الرافدين " للمتزوجين الجدد . .
وللأسطة هادي ولد واحد اسمه " حسن " وكان يدلعه باسم " حسوني "، وقد ترك " حسوني " المدرسة مبكراً ليقف إلى جانب أبيه في العمل بعد أن أنهى الخدمة العسكرية الإلزامية . . فتطورت " نجارة الإيمان " بفعل مساهمة الأبن بالعمل إلى جانب أبيه ، وتحسن وضع العائلة الإقتصادي والمالي ، فتزوج " حسوني " من " فاتن " التي أحبها منذ أن كانا طفلين بريئين . . ورزقا بطفل اسمياه " هادي " تيمنا بالأسطة هادي.
وحسوني الذي نشأ على طريقة والده لم يكن من المهتمين بشئ سوى عمله ، وكان يسخر دائماً ويقول: لا أدري كيف يحفظ الناس كل هذه الشعارات ؟ أنني أخاف حتى من أن أردد ثلاث كلمات . . ( كان يقصد شعار البعث . . وحدة وحرية وأشتراكية التي أعاد القوميون ترتيبها إلى حرية وأشتراكية ووحدة).
وكحال بقية شباب البلد ، أستدعيت مواليد "حسوني" لعدة مرات ، وبقي في الخدمة العسكرية الفعلية في منطقة "مهران " الإيرانية . . أما الأسطة هادي فقد بدا مرهقاً من إدارة العمل لوحده وأثرت الحالة هذه على إنتاج المعمل الصغير. .
وفي ليلة ليلاء . . جاء مدنيون ليبلغلوا الأسطة هادي بأنه من"التبـــعية الإيرانـية " ويجب أن يسفر إلى إيران فوراً. . فهاجت العائلة الصغيرة ، وصرخت أم حسوني تعلمهم بأن أبنها جندي يحارب ضد إيران، وقالت فاتن وهي تضم هادي الصغير إلى صدرها بأنها " سنية " وليست شيعية وزوجها جندي يحارب في إيران . . أجابها أحدهم بإنها يمكن لها البقاء في العراق وليذهب هذا الصغير "العجمي" مع جدته إلى إيران ! وتعالى الصراخ وحضر الجيران ليشهدوا منظر الأسطة وزوجته وكنته وحفيده وهم يحشرون في سيارة عسكرية صغيرة بعد أن مزقت شهادات جنسيتهم ومستنداتهم الأخرى.
أربعة أيام مرت والمحلة بقيت تعاني من آثار الصدمة ، كان الجميع ينتظر ما الذي سيحدث عندما يعود " حسوني" من الخدمة العسكرية في إجازته ، توقع قسم منهم أن يكون "حسوني" قد سُفِرَّ قبلهم ، وقال آخرون أنه بالتأكيد قد أعتقل ولن يُسّفَرْ لأنه قادر على حمل السلاح ولن يرسل إلى إيران. . وبينما هم بين هذا وذاك يتداولون سراً في هذا الأمر المحزن ، وقفت سيارة إسعاف عسكرية أمام الدار التي ختمت أقفالها بالشمع الأحمر ونزل نائب ضابط وتوجه إلى باب الدار وطرقه . . ثم طرقه . . وطرقة ثالثة . . ولما لم يجد جواباً توجه إلى الدكان المقابل للدار الذي همَّ صاحبه ليبلغ الجندي بالأمر قبل أن يسأله . . . " سفروهم " ! أستغرب الجندي وسأله مردداً الأسم والعنوان . . وهنا أكد له الجمع الذي التف حوله من أبناء المحلة أنهم قد تم تسفيرهم . . أجهش الجندي باكياً وأخبرهم بأنه مكلف بتسليم جثة الشهيد "حسن هادي" حيث أصيب بصاروخ إيراني !.
رفض الجندي توسلات أبناء المحلة بإستلام الجثة ودفنها ، وتطوع قسم منهم للذهاب معه ومن ثم استلامها من مستشفى الرشيد العسكري بعد توقيع عدد من المستندات. وفي اليوم التالي شيعت المحلة جثمان "حسوني" الشهيد العراقي من أصل إيراني ، ودفن جثمانه في النجف الأشرف ، وأقيمت الفاتحة لمدة ثلاثة أيام أمام دار والده الذي إغتاله الفرسان الذين كانوا يتعاونون مع أجهزة التسفيرات وسرقوا متاعه وما سمح لهم بحمله على قلته وهم في طريقهم مشياً إلى إيران . .