لأنّه رضعَ صوتَه منذ صغره مع نعي امّه، أصرّ بدر على أن يحيي جويسم كاظم حفلة عرسه. اقترحوا عليه عبادي وحسين سعيدة فقال بعناد:" أما جويسم كاظم، وإلا فلن أتزوّج حتى لو قتلتموني". قالوا:" جويسم بالعمارة، من الصعب أن يأتي إلى هنا، ما رأيك بالمنكوب؟". قال كأنه يبتر شيئًا:" جويسم...". ولأنه عريس، لم يجرؤ أحد على معارضته. لم يخذلوا إصراره، تصنّعوا أن يكونوا سلسين تعويضًا لفظاظتهم في إكراهه على الزواج من ابنة عمه سحر أم ضروس. أفهموه أنه حرّ، وأن كلّ ما عليه هو الأمر وعليهم الطاعة. كان هذا قبل التبليط، في بداية الهدير المرعب للطائرات التي تدنو من الأرض كثيراً، حين تخلّت المدن عن مسالمتها واختارت الزمن الصعب عامدةً. قالوا له بعد سقوط أول قذيفة مدفع ثقيلة:" سحر ابنة عمك. مَن لها غيرُك؟ نعم هي نحيفة جدًا، لكنها ستسمن ما أن تشمّ ريحك، بالعباس ستسمن". وحين قال لهم أن أسنانها تشبه البوكس الحديد صفعوه على أسنانه فأدموها. أطفأ بدر المسجّل أو ربما أوطأ صوته، لا أحد يتذكّر.. ما شاعَ هو أن المسجّل علس كاسيت جويسم واختفى الصوتُ مع الصفعة. تجهّموا في وجهه، أرخوا عكَلهم في رقابهم. ثمة ثغاء لخروف سمين يملأ فناء الحوش إيذانًا ببدء مراسيم العرس الوشيك، وبدر يعيد لفّ كاسيت جويسم ويمسح الدم عن أسنانه. كان هذا قبل بطاقات الدعوة المذهّبة التي تُطبع حراريًّا وتوضع في ظروف، كان في زمن مكتب القريشي لطباعة بطاقات الأعراس الورقيّة الهشّة ذات الصيغة الثابتة حتى مع سقوط صواريخ الأرض ـ أرض: يتشرّف، يتلوها فراغ منقّط، بدعوتكم لحضور حفلة زفاف......... في داره الواقعة في........ قرب....... وبحضوركم يتم الفرح والسرور. كان أهل بدر يكتبون على ظهور البطاقات الهشّة أسماء المعازيم بخطٍّ سيئ حين مرّت أوّلُ سيّارةِ تكسي كراون تحملُ نعشًا ملفوفًا بعلم، ستلتصق ألوانه، لكثرة تكراره، بالذاكرة الموجَعَة، شقّت الزقاقَ الضيّقَ مبتعدةً إلى نهايةِ القطّاع. ردّدَ بدر اسم جويسم كثيرًا، ردّدَه بعنايةٍ كأنّه يتلو نصًّا مقدّسًا، كأنّه يستنجدُ به. وسيردّدُه عاليًا في ليلةِ عرسه. ـــــ ـــــ ـــــ كان هذا قبل مكبّراتِ صوتِ المانتربو والدجتال، حدثَ في زمنِ السمّاعاتِ الحديديّةِ التي تُربط على ستاراتِ البيوتِ الواطئة. تعمّدَ بدر أن يتأخرّ في الإطلالةِ على المعازيم للسلام عليهم. رافقه مصوّرٌ أطولُ منه بكثير، لذا كان يضطرّ لإرخاءِ مفصلي ركبتيه ليوازيه في الارتفاع. انقطعَ السلكُ الذي يغذّي نشرةَ المصابيحِ التي تنتشرُ فوقَ العكَل اثر طلقٍ ناريٍّ فصاحَ أحدُهم بقوّةٍ واستعدادٍ للعرك:" لا أحد يرمي". لكنّ أحدًا لم يلتزم، فقد رمى آخر، وآخر في الوقتِ الذي كان المذيعُ أبو شوارب المتجهّم يذيعُ البياناتِ الأولى للحربِ، وختمَ بيانَه الطويلَ الأخير: أما خسائرنا فشفلٌ واحد". كانت ليلةً ساخنةً، سكنَ فيها الهواءُ المثقلُ بالغبارِ متحديًّا أمزجةَ الناسِ في المدينة، ومطلقًا بوخةً جعلتْ من التنفّسِ وحدَه مهمّةً شاقّةً. مرّتْ يدُ بدر مرارًا لتمسحَ عرقَ عنقه بمنديلٍ له لونُ القاطِ السموكن الأسود. ولأنّ ياقةَ قميصه تلتصقُ برقبته بشدّةٍ لذا خلعَ ربطةَ عنقه الورديّة. اعترضَ صديقٌ له يجلسُ أمامه مقرفصًا فقال له بدر:" لستُ بصددِ الزواجِ من سميرة توفيق.. هي سحر أم ضريسات". لم يفهم الصديقُ لأنه انشغلَ حينها بمنظرِ ارتقاءِ جويسم للمنصّة. كانت عربةً خشبيّةً متينةً، أُبعدَ حصانُها إلى نهايةِ الزقاقِ فأحاطه أطفالٌ وقحون نتفوا الكثيرَ من شعرِ ذيله.. بصوتٍ يعرفه أهلُ المدينة جيّدًا طلبَ فالح حسن من المعازيب الجلوسَ. قالَ بوضوحٍ أنه لن يبدأ العزفَ للفنان الكبير جويسم أن لم يجلس آخرُ معزّب. هدأ الجميعُ باستثناءِ الأطفالِ الذين خابَ أملُهم بوجودِ الكاوليّاتِ لأنهم سيُحرمون من متعةِ غرسِ أصابعهم الوسطى في مفارقِ أردافهن. كان هذا قبل الأرائك والكراسي البلاستيكية المريحة، كان في زمنِ الكراسي الحديديّةِ الموجعةِ لعظامِ العصعص. امتدّتْ سكينُ فالح حسن إلى شريانِ كمانه الغليظ لتبضعه، فتدفّق الدمُ غزيرًا. أطلقَ جويسم أوّلَ آه فاستدارت العكَل نحوه. سكنتْ، ثم أطرقتْ نحو الأرضِ، وامتدت الأيادي نحو أطرافِ الشطافي لتمسحَ الدمعَ في الوقتِ الذي عوتْ فيه صفاراتُ الإنذارِ لتزيدَ من كثافةِ الهواءِ الثقيلِ الساكن. وقفَ المصوّر بإزاء العريس، قال له:" ارفعْ رأسك"، لكنّ بدر لم يفعل. ظلَّ مطرقاً، انخفضَ رأسُه أكثر، ثم أراحه بين كفّيه. حين انقطعَ عواءُ صفّارةِ الإنذارِ سمعَ المحيطون به أولَ تنهيداته.. ما أن أنهى أولَ أبوذيّة له، حتى نهض جويسم وسطَ دهشةِ المعازيم، أبعدَ الكرسيّ الحديديّ الذي كان يجلسُ عليه، جلسَ على الأرضِ، مدّدَ ساقيه وأراحَ راحتيه فوقَ ركبتيه. صاحَ البعضُ من المعازيم:" لا، يا أبو حميّد، لا يليقُ بكَ أن تجلسَ كالنساء". واعترضَ البعضُ:" دعوه، دعوه يقلّدهن في تقيؤ الضيم، هنيئًا لكلّ امرأة تجيدُ النعي، ون يا أبو حميّد، ون..". أنَّ أبو حميّد بعُربٍ تخرجُ من روحِه، من مكمنِ اللوعةِ في صدغيه: يا ساري الليل عكَلي من ودادك شرك. قذفَ رأسَه الطليقَ في الفراغِ إلى الجانبين بقوّةٍ كأنّه يريدُ التخلّصَ منه، كأنّه يريدُ أن يرميه بعيدًا عنه. حين طلبَ المصوّرُ من بدر أن يرفعَ رأسَه، ربما للمرةِ العاشرة، قال له:" ابتعدْ عني، وإلاّ سأضربكَ بكلّ ما في وجعي وضيمي من قوّةٍ.. حقّك، فأنتَ لم ترَ ضروس سحر". برغم قِدمها كانت السمّاعةُ تسكبُ أنين جويسم نقيًّا، لا صدى فيه، وتجّسدُ تنفّسَه اليشبه شهيقَ الغريقِ. حين وصلَ جويسم بالزهيري إلى: صارت حلم يا صاح ذيج الليالي ونحل، نهضَ العريس، غادرَ الأريكةَ، فتعثّرَ بمنضدةٍ أمامَه تعتليها باقةُ ورودٍ صناعيّة سيئةِ التنسيقِ، سقطت المزهريّةُ وتشظّتْ.. لم يلتفتْ لها، سمعَ خلفَه من يقول:" فدوة.. غده الشرّ"، أسرعَ نحو العربةِ، وبحركةٍ سريعةٍ اعتلاها بقفزةٍ واحدةٍ.. جلسَ أمامَ جويسم، قَبَّله، التصقتْ شفتاه في الفتحةِ الصغيرةِ بين حبلي العقالِ فوقَ جبينه.. ثم احتضنه.. احتضنه طويلًا، الأمرُ الذي دعا فالح إلى أن يعلّق:" الله يساعدك"، بكى بحرقةٍ، ثم ثغب:" يا يابه يا بويه، يا جويسم يا خويه".. كان المايك في حجرِ جويسم، فانهال الثغيبُ على آذان الناس، على قلوبهم، على رئاتهم التي احتبسَ فيها الهواءُ طويلاً.. ثغيبٌ طويلٌ له رجعٌ عَبَرَ إلى مسافاتٍ بعيدةٍ في القطّاع.. سمعَه الأطفالُ الذين ما زالوا ينتفون شعرَ ذيلِ الحصان، وسائقُ التكسي الكراون الذي لم يهتدِ بعد إلى البيتِ الذي خرجَ منه الشابُّ الذي تعتلي جثتُه قمارةَ سيّارتِه. سمعَه المصوّرُ الذي غادرَ العرسَ غاضبًا تمتلئ مخيّلته بصورٍ لبدر وهو يرفسُ تحتَ قدميه.. كان هذا في زمن لم يكن بدر أو أهله أو جويسم أو فالح أو المصوّر أو المعازيم جميعًا، أو سائق الكراون يتصوّرون زمنًا أسوأ منه. لماذا بكى بدر في ليلةِ عرسِه؟ لماذا ثغب بهذه الحرقةِ؟ لماذا اختارَ بكاءَه في حضنِ جويسم؟ هل أصرّ عليه كي يحتضنه ويبكي؟ أيمكنُ لأسنانِ العروسِ الناتئةِ ونحافتها، التي تذكّر بحالةِ سلٍّ متأخّرةٍ، أن تطلقَ كلَّ هذا الإحساسِ بالمرارةِ؟ أسئلةٌ ظلّتْ عالقةً حتى بعد افتتاحِ الأورزدي في قلبِ المدينة وبعدَ التبليطِ..
|