الحرية .. كلمة
هناك أسطورة تقول : إن الأسكندر الأكبر كان في بواكير شبابه تلميذاً يتعلم الفلسفة من أرسطو ، لكنه لم يلبث أن ترك الفلسفة ليصبح قائداً يحلم بتوسيع مملكته مقدونيا ، وليغزو أول مرة بلاد ما بين النهرين ، حتى سقط مغشيّاً عليه أمام جلال نور أنوار هذا العالم الأبيض ، فعاد إلى بابل مصاباً بحمّى غامضة ، جعلته يهذي حتى مات . وعندما حمل المهاجرون الأوائل أسماءهم وأمتعتهم وقبور أحبائهم نحو العالم الجديد ، كان بإمكان هذا السماد الميتافيزيقي أن يجعل من أميركا ، الجمهورية الفاضلة في التاريخ ، لكن العجل الذهبي أفسد هذا الحلم الجميل . وفي كتابها ( الربيع الصامت ) تروي لنا الكاتبة الأميركية راشيل كارسون أعجب رحلة للموت في أقسى معركة عرفتها الإنسانية ، بينما كان الكاتب الانكليزي جورج مكش يتمنى أن يموت بعيداً عن الولايات المتحدة ، لأنه كان يكره الموت على الطريقة الأميركية !. ولعل فلسفة الوجود كما تفهمها الولايات المتحدة تختصرها النظرية القائلة : ( أنا أقتل .. إذن أنا موجود ) . لذلك كان جنود الاحتلال من المارينز يبحثون كل ليلة عن حفلة قتل ، وعشاء للمأتم ، وعن طفلة نائمة يطفئون في عيونها أعقاب سجائرهم ، عندما كانت بلادنا مستأجرة لمتعددة الجنسيات !. وأذكر أننا في أيام الاحتلال الأميركي كنّا سجناء داخل بيوتنا ، وكنّا محكومين بالموت البطيء ، والموت يتمادى في بطئه . يدخل علينا مع كل شهيق وزفير . لم يكن لنا من مكان صالح للنوم ، فالموت في كل مكان . أشخاص بلا رؤوس . موتى دونما أكفان . أشلاء تتناثر لا مكان لها في الدفن ، ولا محلّ لها من الإعراب . الحياة في العدم ، العدم في الوجود . ملايين من الكريات الحمر والبيض التي تولد وتنتحر في اللحظة . ما أطول الليل حين يقترب الانتظار من الانفجار ، وحين تكون المسافة بين الحياة والموت ، لحظة انتظار !. وما أقصر المسافة بينك وبين الموت ؟!. إنها كالمسافة بين يدك وخاصرتك . كنّا نقيس المسافة بين حياتنا وفنائنا بالأمتار ، نحن الذين غادرنا الموت سهواً . الزمان تتلاشى حدوده الواقعية المتعارف عليها ، والساعة يتلاشى وجودها ، وتصبح مجرد حلية تزيّن المعصم ، كالعملة الملغاة ، تتمدّد كالديدان الانشطارية ، فلا ساعة الزمن كانت ساعة ، ولا يوم الناس ذاك يوم . الليل كابوس ، رياح تعوي ، وقمر مدفون . ليل لا يعقبه نهار . تفوح منه رائحة بول المارينز بين دبابتين ، والجرذان ، والمسالخ ، ودخان بارود . يتبعه رهط من الكلاب المسعورة . ذئب يوغل في سفح دمه ، يشربه فيختنق ، ما أن يرخي علينا سدوله حتى تنفتح أبواب الجحيم . يُشرع المحتل بنبش القبور ، وتمزيق الجثث .. نعوش من عهد نوح هنا دُفنت فتحوها . في عصر أعمى وأصمّ ، لا آذان له ولا عيون . تتداخل الصور والأحداث مع الذكريات في ليالي الوجع الطويلة .. يعلم الله إننا كنّا نموت بأبشع ما يموت الميتون ، لكي يصير وجه الوطن كوجه الحبيبة ، ويصير العالم أكثر إنسانية ، ويميّز بين الإنسانية والهمجيّة . بين القاتل والضحية .
|