أديب عراقي ينعي نفسه!

"الصديقات.. الأصدقاء.. وداعا
أيام ليس إلا.. وسأكون هناك..
سأفتقد، الأمر الذي ينشرني وجعا منذ الآن، الشمس والهواء والنهر والشجر ومرأى الأقمار والنجوم، وكل عطفة حسن من عطفات هذه الورقاء المعطاء المسماة "الحياة ".
نعم، ولكن سأفتقد حضوركم أكثر.. صديقاتي أصدقائي، في البيت والمحلة والعمل والمكتبة والشارع، ليس في العراق وحده، بل عبر العالم أيضا، وليس الآن فقط بل عبر الزمن أيضا.
سأفتقد أيضا، وهو أمر بالغ الشدة علي،.. أحلامي.. ياه أية قلاع شاهقة شديدة التماسك عديدة الطوابق والغرف، آه.. هناك حيث غفوت، ولهوت، وضحكت وبكيت، كيما أعد العدة لأقطر ذلك كله في "كتاب" حياتي!!! الذي غدا اليوم دعابة غاية في السماجة، حيث سيبدو فصلا ساخرا، إلباس ثوب الأيام القشيب هذه الرؤى العملاقة.
الصديقات.. الأصدقاء
أجمع أمس أهل الحل والعقد من معشر الأطباء.. أن لا بقاء للجماسي صديقكم، في هذه" الدنيا الفانية" سوى أيام معدودات، فالشق عريض والرقعة متصاغرة، مرضي عضال"سرطان رأس البنكرياس المتقدم" الذي كشف عنه الرنين المغناطيسي بنحو واضح، ويمتاز تداخله الجراحي بتعقيد من الدرجة ولا يتناسب ومقدراتنا الطبية المحلية، وبالتالي ليس من سبيل سوى طب الخارج المتقدم، وليس من سبيل أليه سوى المال، المال الذي فوق طاقة ظهري بكثير على إحتماله..
على أية حال.. أجد أنني عبرت كما أفراد جيلي، عشرات الميتات بسلام، وأنا اليوم ألعب في المستقطع لـ"الوقت الضائع"، شعوري اللحظة سلام عميق.. ها.. لا أكتمكم.. هو سلام مداف بأسى الوداع المرير".

أعلاه نص رسالة النعي التي نشرها القاص والأديب كاظم الجماسي على صفحته – بغداد – على الفيسبووك والتي تناولتها وكتبت عنها العديد من المراكز الإعلامية، وأحدثت ضجة كبيرة بين أوساط المثقفين والإعلاميين والأدباء العراقيين لما تضمنته من مشاعر مأساوية دفعت به لكتابة نعيه بيده وقبل مغادرة الحياة.

قد يكون خبر سماع إصابة شخص ما بمرض العصر اللعين خبرا أعتدنا سماعه هذه الأيام خاصة وأن إنتشاره اصبح حقيقة واقعة مسلم بها وأن طرق معالجته لم يعثر عليها لحد الآن على الرغم من المبالغ الطائلة التي تنفق على البحوث والدراسات والتجارب الطبية عالميا. وقد نتفق جميعا على أن هذا المرض والموت صفتان متلازمتان وأن الناجين منه من المصابين به نسبتهم ضئيلة تعتمد على الصدفة والندرة في حدوثها ، لكن الحزن والخوف من فقدان عزيز أو الإصابة بهذا المرض الخبيث يبقيان مركز قلق ممض لنا جميعاً.

اعترف أنني لم أسمع بالأديب والقاص كاظم الجماسي من قبل ربما لأنه ليس من جيلي وأنه ممن لم يتمكنوا من مغادرة العراق كما هي حال الآلاف من المثقفين والشعراء والأدباء العراقيين. أعترف أيضا بأنني قد بحثت عنه عبر "ماكنة العم كوكل " فوجدت القليل والكثير عنه. أما القليل فهو أن أديبنا أصدر مجموعة قصصية واحدة بعنوان "لغو لا أكثر" عام 1997 ، وانه دفع ثمنها غاليا حين - أستضيف - في مديرية الأمن العامة معتقلاً لمدة شهر لأنه أصدر مجموعته بطريقة الإستنساخ دون الحصول على موافقات أصولية. وأن له مشروع إصدار مجموعة قصصية ثانية ورواية ، وأما الكثير ، فإن الضجة التي أحدثتها رسالة النعي التي كتبها اثارت حفيظة العديد من المراكز الإعلامية والثقافية والأدباء والنقاد والمثقفين دون الجهات الثقافية الرسمية والحكومية!.

في الدول المتقدمة حضاريا وثقافيا ، تأخذ مهمة رعاية الطاقات والمواهب الثقافية والفنية والعلمية وغيرها أشكالاً مختلفة توفرها الدولة من ميزانيتها السنوية . وهي إذ تفعل ذلك فإنها تساهم ببناء مجتمعات رائدة في تلك المجالات بقصد صهر كل تلك الطاقات والمواهب لتصب في بودقة خدمة المجتمع وتنويره وزيادة معارفه وعلومه وآدابه. بنفس الوقت تقوم مؤسسات رسمية أو شبه رسمية بإسناد الموهوبين الشباب ودفعهم ومساعدتهم في إنجاز أعمالهم الإبداعية الأدبية أو الثقافية أو الفنية أو العلمية عن طريق إعادة التوجيه والدعم المباشر. ربما لاتساهم الدول المتقدمة بتوفير منح مالية يتم من خلالها معالجة المصابين بأمراض خبيثة من المبدعين والموهوبين ويعود ذلك كون هذه الدول تملك منظومة خدمات صحية (مستشفيات ، مستوصفات ، أطباء ، أخصائيون ، صيدليات ، مراكز تحليل وأشعات) لكل مواطنيها مقابل أجور رمزية يدفعها المريض من مخصصاته التي تدفعها له الدولة نفسها ، ناهيكم عن الأدوية المدعومة من قبل الدولة لكي لاتثقل كاهل المواطن بأسعارها العالية. ولن ننسى شركات التأمين الصحي التي تعمل من ضمن منظومة الخدمات الصحية مقابل أجور رمزية تتناسب في معدلاتها مع حاجة الفرد للخدمات الطبية والصحية.

اما في وطني البعيد ، فالمثقف يكتب نعيه بيده ، لأن المرض الذي أصيب به " لايتناسب ومقدراتنا الطبية المحلية ، وبالتالي ليس من سبيل سوى طب الخارج المتقدم، وليس من سبيل إليه سوى المال، المال الذي فوق طاقة ظهري بكثير على إحتماله..". (من رسالة النعي).

في وطني البعيد ، كانت "مدرسة الطب" العراقية من أوائل الكليات الطبية التي انشئت في الشرق الأوسط. من تلك المدرسة - الكلية ، تخرج آلاف الاطباء ممن تم تصنيفهم بأعلى المستويات مهنياً ليس في العراق بل على المستوى العالمي أيضاً. يقال أن في بريطانيا وحدها آلاف الأطباء العراقيين الذين يعالجون الأنكليز في حين تشكو مستشفيات العراق من قلتهم.

في وطني البعيد ، ينزف الناس ألما وقهراً ، حيث يسبح الوطن على بحيرة من الذهب الأسود في حين تئن أجساد المثقفين والأدباء والعلماء من العوز وقلة أو أنعدام خدمات الرعاية الطبية والصحية.

في وطني البعيد ، تهتم الجهات الرسمية بإجراء عمليات تجميل لوجوه النواب ومؤخراتهم وبواسيرهم دون المثقفين والأدباء والعلماء وغيرهم ممن يرتبط تقدم الوطن بهم ومن خلال أعمالهم ! فإن كان للقاص كاظم الجمساني مساهمات ثقافية رفد بها - على قلتها - الثقافة العراقية فما الذي قدمته بواسير النائب – العطية – لمجمل العملية السياسية في العراق؟

يحدث كل ذلك في وطني ، وطن المحاصصة الطائفية ، وطن يتحرك فيه الإرهاب بكل حرية وسهولة لينسف ويدمر ويقتل ويذبح . وطن يهتم بالجهلة دون المثقفين ، وبالأميين دون العلماء ، وبالمتخلفين دون المتعلمين.

ان يكتب الأدباء العراقيون نعيهم بأيديهم هي ظاهرة خطيرة تدل على التدهور المبرمج على كافة الأصعدة ، ظاهرة تستوجب التغيير من أجل بديل أفضل. انها دعوة صريحة للطبقة المثقفة العراقية في الداخل والخارج من أجل انقاذ حياة القاص كاظم الجمساني وغيره من الرموز الثقافية والأدبية والعلمية ان لم يكن لكل العراقيين الأغنياء ببوطنهم والفقراء بحياتهم.