تقسيم العراق.. الحدث والإشكالات.. بين مافيات السلطة وكارتلات بيع المقاعد

مقدمة لابد منها:

كنت أود أن لا أضع مقدمات عامة وحاولت الولوج الى الموضوع مباشرة فعقل القاري صار مهيئاً لتناول هذه الوجبات القاسية من التقارير التي اقدمها للحوار اكثر مما استعرض بها المعلومات الموثقة التي تتضمنها إلا أن المنهج العلمي الذي اتبعه ألزمني بوضع هذه المقدمة على إيجازها.

فالتقارير الحالية في مقر رئاسة الوزراء البريطانية (تين داوننغ ستريت) وفي البيت الابيض وفي طهران، تجمع على بقاء المالكي في السلطة لدورة ثالثة بل هم يريدون بقاءه ويؤيدون تصرفاته وسياساته السلبية تجاه الشعب العراقي، كما أنهم يساندون منهجه في خلق الازمات وإفتعال الاشكالات سعياً لتحقيق الهدف المنشود في تقسيم العراق.

كل هذه الدول شرقاً وغرباً يهمها تقسيم العراق، يهمها ان يكون العراق ضعيفاً مشرذماً ومفككاَ على كافة المستويات، ولعلها تتفق او تتباين في الغايات والاهداف بين السياسي والديني والاقتصادي والتاريخي والحضاري، فالعراق يملك قوة خفية تجذب اليه العامل السلبي ولعل العلة تكمن في ان العامل الايجابي في أصالة العراق قوياً وفي مستويات متقدمة تجعل الشحنات السلبية تنجذب اليه بقوة.

فلا يمكن إحداث اي تقسيم لدولة ما دون أن يكون هناك فوضى سياسية وفكرية وإجتماعية وثقافية وإقتصادية، وكل ذلك متوفر الان في العراق في أقصى درجاته.

أسس نظرية التقسيم:

حين بدأت مفاهيم سياسة التقسيم المعاصر تظهر بعد سقوط الدولة العثمانية وتكرست في الاتفاقية الشهيرة إتفاقية (سايكس- بيكو) 1916م، كان العراق جزء أصيل من مخطط التقسيم، غير انه لم يكن مهيئاً بالقدر الكافي لحدوث التقسيم للاسباب التالية:

أولاً: لعدم ظهور النزعة الطائفية بشكل مؤثر في ذلك الوقت. 

ثانياً: لم يكن العراق ممرا إقتصادياً مع انه يمثل حلقة ربط بين الشرق والغرب لكن إفتتاح قناة السويس وحصول الامبراطورية البريطانية على ممر مائي مهم للهند والشرق لم يمنح العراق تلك الاهمية الا في الجانب التاريخي والحضاري.

ثالثاً: لم يكتشف النفط في العراق إر بعد سنوات من الاتفاقية.

رابعاً: كل التنقيبات الاثارية التي قام بها العلماء الانكليز والتي تبعت رؤيا توراتية كانت تتركز حول بابل فقط.

إلا أن التغيرات الاقتصادية خاصة إكتشاف النفط والسياسية والفكرية أعاد الى الذهن السياسي الغربي أهمية فكرة تقسيم العراق للحصول على المراكز الاقتصادية لانعاش الاقتصاد الاوربي والامريكي على السواء. فكان لابد من إيجاد أرضية خصبة لحدوث الصراع فكانت الاشكالات المذهبية هي القاعد الاساس خاصة ان العراق يتوسط السعودية ذات الاتجاه الوهابي السلفي، وإيران المحسوبة على الفكر الشيعي مذهبياً والاصرار المستمر للحركات الكردية بالاستقلال وتشكيل بناء الدولة الخاصة بالقومية الكردية وهو ذات الحلم القديم الذي غذته المخابرات البريطانية وعلمت على إنضاجه منذ ايام حركة الشيخ (محمود الحفيد). (1)

من الملاحظ أن التقسيم لا يتم إلا في حالات الضعف الناتجة عن الحروب المدمرة، فالامبراطوريات القديمة تم تقسيمها بعد الحروب أو موت شخصياتها، مثل والامبراطوريات السومرية والاشورية والبابلية وأمبراطورية الاسكندر وغيرها. 

ففي عصور الحروب وبعدها يشتد العامل السلبي في المجتمع ويتنامى الانحطاط الفكري والاجتماعي، وتتشكل الصراعات على أسس منحطة في غياب الوعي الجمعي، وفي تنامي نزعة التدمير حيث العوامل السلبية تتغلب على العوامل الايجابية بسبب قوة التجانس بين السلبي على حساب الايجابي.

وقد تقرر تقسيم البناء الكلي للدولة العثمانية ثم تقسيم البناءآت الداخلية الى أجزاء اصغر ليتم السيطرة عليها عبر نشر الفوضى والصراعات الطائفية والاجتماعية والفكرية فيها.

في تقرير لمعهد الدراسات الاستراتيجية في واشنطن، سنة 2004م يقول مدير المعهد: " أن تقسيم العراق قضية حتمية وهي تنتظر نضوج عوامل الضعف الكامن في المجتمع العراقي ". (2)

لاشك ثمة العديد من الاغراض المعينة التي تهم السياسة الدولية في تقسيم العراق الى كيانات متصارعة يمكن ان تتصالح في حدود ضيقة أشبه بالحرب الباردة لاجل تمرير أجندات مبرمجة مسبقاً تخص الاقثصاد الدولي من جانب وحماية إسرائيل من جانب آخر. فعلى الرغم من نظرية الفوضى الخلاقة التي اطلقتها سياسات بوش في العراق، وعلى الرغم من نظرية الشرق الاوسط الجديد إلا أن تقسيم العراق سيتبع نظاماً دقيقاً تكون المصلحة الدولية فيه في المقام الاول، أي انهم لن يعيروا أهتماماً كبيراً بطموحات الشعب، ولا برغبات الجهات والاطراف التي سيتم الاتفاق معها على التقسيم، لان التقسيم سيكون رغبة مشتركة بين العراقيين والمخابرات الامريكية والبريطانية.

منهج وخارطة التقسيم:

عندما وضع بول بريمر رؤيتة لحكم العراق تحت المظلة الامريكية – البريطانية قسم العراق إلى ثلاثة كيانات بشكل لايتفق مع المنهج العلمي ولا العقلي لانه لا يتبع القواعد الاصولية في التقسيم، فقال: العراق (شيعة وسنة وأكراد). ومن الملاحظ انه لم يتبع التقسيم الديني ككل ولا التقسيم القومي العرقي ككل، ولكنه خلط بين هذا وذاك إمعاناً منه في زيادة الارتباك وفي نشوء الصراعات المستقبلية، ونحن نرى ان مفهومي الشيعة والسنة مفهومين دينيين مذهبيين، في حين الاكراد تعني المفهوم العرقي القومي.

هذا النوع من التقسيم لم يأتي من فراغ ولا عن جهل سياسي وإجتماعي بالترتيب الوضعي للعراق ولكنه جاء عن دراسة وبحث وتعمق في أشكال الصراعات التي يمكن أن تطيح بالسياسات التنظيمية في العراق لاجل الامعان في التشتت والتفرق مما يغذي فكرة الانفصال والانفصام، وقيام كيانات ودويلات متعددة تتناحر على مراكز الاقتصاد وعلى جغرافية الحدود وعلى مصادر المياه والثروات في ذات الوقت. وسيصبح العراق ثلاثة أقاليم أو دويلات للشيعة والسنة والاكراد.

إقليم الشيعة: 

سيشمل هذا الاقليم بغداد ويمتد جنوباً في الفرات الاوسط الى المحافظات الجنوبية الناصرية والعمارة والبصرة، وحين تتكامل الصورة مستقلبيا ستضاف الكويت والبحرين بعد ذلك ولكن هذها سيستغرق عقداً من الزمان. الاطراف المتنازعة ستحاول وضع بغداد تحت حكم مشترك وسيثير ذلك العديد من النزاعات الجانبية. وستعتبر بغداد عاصمة الاقليم وإذا تم تحويله لدولة فسيحاولن تدويل بغداد والبحث عن عاصمة ثانية للاقليم ولعلها ستكون النجف في هذه الحالة.

المميزات والامكانات لهذا الاقليم: ستتركز المميزات في انها تشمل معظم مناطق التواجد الشيعي وخاصة في الفرات الاوسط في المدن المقدسة النجف وكربلاء، باعتبارهما مراكز دينية كذلك الكاظمية في بغداد وسيطالب الشيعة بضم سامراء ايضا وستحدث إشكالات فيما يخص سامراء بالذات مما يبقى عملية الصراع المذهبي مشتعلة، كما انه شرقا سينتهيس عند ديالى على الحدود الايرانية لان الاكراد سيضعون خارطتهم الى حدود ديالى كما تم الاتفاق عليه مع بريمر وقتها.

من جانب آخر فهذا الاقليم يمتلك مراكز لانتاج النفط في الجنوب (البصرة ومنطقة الاهوار) ومراكز للطاقة الكهربائية (مركز الطاقة الحرارية في الناصرية) اضافة لمصافي نفط ومناطق حدودية مع ايران والخليج العربي خاصة إذا تم ارجاع الكويت الى العراق واضيفت اليه البحرين فسيكون أقليما كبيرا يشكل دولة لها حدود بحرية واسعة، وبذلك يحصل على ممر تجاري كبير، هذا غير المطارات الموجود حالياً في الوسط والجنوب وسيتم تطويرها.

يمكن إعتبار اراضي الاقليم بانها تتمتع بالخاصية الزراعية والصناعية على السواء مما سيوفر فرص عمل واسعة على الاقل كما هو في المخطط العام لسياسة التقسيم المطروحة منذ اتفاقية سايكس بيكو مع التطورات المرحلية الحالية.

إقليم السنة:

سيشمل الجانب الغربي من بغداد بامتدان محافضة الانبار كلها في حدودها الشمالية والجنوبية والغربية، سيحاولون الحصول على الموصل وستصبح الموصل مركز صراع مثل بغداد.

مميزات وإمكانات هذا الاقليم: يسيطر على مدخل الفرات الى العراق والى اقليم الشيعة مما يمكن أن يبعث حالة صراع في حرب المياه. حتى الان لم يكتشف البترول في هذا لااقليم لكن هناك مناجم الكبريت والفوسوفات ويمكن ان تكون اهم قيمة من البترول في التجارة العالمية إذا احسن استغلالها.

هذا الاقليم سيشمل الحدود الجغرافيه مع كل من سوريا والأردن شرقاً وشمال شرق وايضا السعودية جنوباً وسيشكل فاصلا بين سوريا القريبة من إيران ولبنان – حزب الله وبين الكتلة الشيعية، مما يؤجج الصراع من جديد.

أقليم الاكراد:

سيشمل المحافضات الكردية السليمانية واربيل وسيستمر الصراع حول كركوك مركز النفط في الشمال، ويحاول الاكراد النزول في الجنوب الشرقي الى ديالى كما سيركزون على الموصل ولكنها اي الموصل ستكون بالنهاية من حصة العرب السنة. بمرور الوقت وحين تتحقق الفكرة سيحاولون ضم أكراد إيران وسوريا وتركيا لتتوسع المساحة الجغرافية للاقليم لتكون اكبر من مساحة العراق الحالي.

مميزات وإمكانات هذا الاقليم: يشتمل هذا الاقليم على إمكانات هائلة ايضا وخاصة البترول في كركوك حيث سيضع الاكراد يدهم على كركوك بقوة مما يثير العرب والتركمان هناك، غير ان العرب في كركوك لايشكلون قوة مهددة واما التركمان فيفتقرون الى الخبرة السياسية والعسكرية التي يتمتع بها الاكراد الذين خاضوا حروبا طويلة مع الانظمة الحاكمة في بغداد منذ ايام محمود الحفيد كما ذكرنا سالفاً.

هذا الاقليم يتمتع بثروات كبيرة منها البترول والمعادن والزراعة ويملك شبكة انهار واسعة، وهو يسيطر على مدخل نهر دجلة الى العراق، ويشتمل ايضا على مصافي بترول ومحطات توليد طاقة، وسيملك مخرجاً على البحر حين يضم اكراد سوريا وتركيا وايران.

لماذا التقسيم؟

أجلت البحث في هذه النقطة الى النهاية لاجل تقديم تصور عن كل إقليم بل لعلها دويلات ولكني اسميتها أقاليم الى حد التكامل النهائي للحدث، ولكن لماذا التقسيم وفي مصلحة من؟ هل الاطراف الثلاث الشيعة والسنة والاكراد سيحققون طموحاتهم فعلا؟

من الملاحظ فعلاُ أن من يقدمون انفسهم كقيادات لهذه الاطراف وبعض مسانديهم كلهم يسعى للتقسيم، كلهم يريد مساحة جغرافية يحقق من خلالها طموحاته في الحكم. بالتأكيد ستختلف خارطة الاسماء بعض الشيء لكن كل الاسماء المطروحة تبقى من داخل هذه الكيانات وقد دخلت في محاورات وطروحات مع المخابرات الامريكية والبريطانية  منذ المؤتمرات التي عقدت في لندن والزيارات التي قامت بها هذه الشخصيات او تلك للولايات المتحدة الامريكية والحوارات التي جرت مع قيادات في البنتاغون والسي آي أيه.

الجميع من وصف بانه معتدل ومن وصف بالتشدد ومن كان في الخط الاول والثاني والثالث الجميع متفق على التقسيم، والجميع يسعى له ويقدم فروض الولاء للبيت الابيض ولتين داوننغ ستريت. 

كل الذي جرى ويجري خدعة كبيرة، يشترك فيها الجميع، وجريمة من الدرجة الاولى بحق الشعب العراقي، بحق الانسان العراقي البسيط، بحق من يعتقد أن هذا الطرف أو ذاك يحمل روحاً وطنية أو رؤية إنسانية. (3)

الخاتمة:

العراق يدخل الان مرحلة ما بعد اتفاقية سايكس بيكو حيث تتحقق فيها المخططات الاستعمارية القديمة، وقد تم انضاج هذه الفكر عبر الطروحات السلبية للسلطات الحاكمة جيلاً بعد جيل، وكان هناك بعض المفكرين ممن اشار الى ذلك واذكر منهم في العراق استاذنا الدكتور علي الوردي رحمه الله، والدكتور علي شريعتي في إيران، ومنذ سنوات وانا اعمل في بحوثي على إستكمال طروحات كل منهما إضافة لتطوير طروحاتي الشخصية في هذا المجال.

الخطر القادم لا يكمن في التقسيم فقط، ولكنه يسعى لتدمير ما بقي من قوة الانسان العراقي عبر تدمير كل المعايير الانسانية الاصيلة وتمدير مناهج التفكير، وصناعة اجيال تتقبل الانحطاط الفكري والنفسي، من أجل تشكيل ذهنية جديدة تتماشى وهذه الطروحات التيلا لا تخدم غير إسرائيل.

............................................

1- محمود الحفيد البرزنجي: ينتمي لاسرة كردية دينية في السليمانية عمل مع الدولة العثمانية ضد البريطانيين اول الامر فامد العثمانيين بالمال والسلاح فوضعوا الفوج العثماني في السليمانية تحت تصرفه، ولما انتهت الدولة العثمانية 1918م إنحاز مع البريطانيين المنتصرين وسلمهم السليمانية وايضا الفوج العثماني، فعينوه حاكما على السليمانية ثم انقلب على البريطانيين. وقد طالب بحكم ذاتي للاكراد.

2- دراسة ميدانية وضعها روبرت ساتلوف مدير المعهد  نهاية سنة 2003 ونشرت في بداية سنة 2004 تناولت إمكانية تقسيم العراق في ظل نهاية نظام البعث.

3- قسم كبير من هذه الطروحات من مذكرات بريمر ومن التقارير الدولية ومراكز بحوث الدراسات الاستراتيجية من مؤلفاتي الخاصة وبحوثي التاريخية.