عندما تحرم الكفاءات من تقديم افضل ماتملك لخدمة بلدها فذلك قمة اللاعدالة . وحين يحل الجهلة عديمي الكفاءة واصحاب المصالح الانانية الضيقة و مروجي الطائفية وعبيد المال محلهم فان أي بلد في العالم سيصيبه التناحر والتمزق كما يحدث في العراق اليوم ، فهؤلاء لايرون ابعد من ( سعة جيوبهم )! وضمائرهم يمكن ان تباع وتشترى بأبخش الأثمان – هذا فيما اذا كانت لديهم ضمائر اصلاً.
ليس هناك من تحليل في مداخلتي المتواضعة هذه ، أذ يكفي ان شمر عن ساعديه - خلافاً لمحبي وطنهم العراق – الكثير من وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والتواصل الاجتماعي ، في التحليل واذابه اطنان من الحقد والكراهية والسم في معسول تحليلاتهم. يكفيني ان اعود بذاكرتي الى عشرات السنين ، وتحديداً ثمانينات القرن الماضي ، حين كنت اعمل في احدى جامعات ليبيا ( في مصراته تحديداّ ) عندما كانت ليبيا تشهد من الصباح وحتى المساء خطب العقيد القذافي وهو يلوح بقبضة يده مردداً طزه الشهيرة (طز في امريكا) ويختمها بعبارة ( والفاتح ابداً ) – ويعني ان ثورته في الاول من سبتمبر 1969( الفاتح ) مستمرة !
كانت الحرب يومها بين الجيش الليبي والقوات التشادية بين صعود وخفوت ، بدأت في 1978 وانتهت في 1987. ولم يكن ذلك الصراع سوى امتداد لصراع تشادي داخلي على شكل حرب اهلية لقي بعض اطرافها دعماً من القذافي ولقيت الأطراف الاخرى دعماً من فرنسا. القذافي كان مدفوعاً بحلم السيطرة على قطاع أوزو ، الذي يعود الى ليبيا حسب وثيقة اتفاق بين المستعمريّن الايطالي والفرنسي ثلاثينات القرن الماضي ، وحلم ايجاد قاعدة عسكرية ستراتيجية ينطلق منها الى افريقيا الوسطى ، فيطرد الفرنسيين ، ويتحول الى بطل افريقيا و المنقذ الاعظم ، مسلحاً بأموال البترول الليبي. ولم يكن يعلم ان نهايته ستكون مأساوية !
صحونا ذات يوم من عام 1987 على دوي هزيمة نكراء للجيش الليبي في أوزو ، ذُبح فيه افراد الجيش الليبي ذبحاً ( حسب تعبير اهل ليبيا انفسهم آنذاك !) وهرب بجلده من هرب . وبالمناسبة فان الجنرال خليفة بلقاسم حفتر الذي يقود مايسمى بعلمية الكرامة في ليبيا اليوم كان قائداً للقوات الليبية في تشاد ، حتى هزيمته ، و قد تم اعتقاله وسجنه في تشاد واطلق سراحه لاحقاً فرحل الى امريكا حانقاً على عقيده القذافي مشكلاً معارضة للقذافي.
حين هزم الجيش الليبي و لم ينقذ بقاياه ( حسب الشائعات الليبية يومها ) سوى مقاتلو جبهة التحرير الفلسطينية الذين استقدمهم القذافي ، خرج معمر بخطاب شهير متوجهاً الى جنوده وضباطه متهماً اياهم بأنهم جبناء ( ونساء ) وليسوا رجالاً !
في تلك الأيام ، لم يكن ليجروء احد من الليبيين حتى على الهمس في اذن ليبي آخرولو بكلمة ضد القذافي ، فالمصير اسود ، لكن وجودنا كأجانب في ليبيا ، كان يشجع البعض على الهمس في آذاننا . واحدة من طالباتي كانت من عائلة ثرية تكره القذافي بعد ان صادر ابان ( ثورته ) ممتلكاتهم الخاصة ، اضافة الى وجود جنود من افراد اسرتها يقاتلون في أوزو من سنوات ، دون ان يسمح لهم بالحصول على اجازة . هذه الطالبة همست في أذني من ان مايقال عن هزيمة الجيش الليبي ليس صحيحاً ، فقد تم شراء ذمم كبار الضباط الليبيين ودُفعت لهم اموال يسيل لها اللعاب فتركوا جنودهم يُذبحون في ليلة سوداء ! مثل هذه الشائعات سمعتها مراراً بعد ذلك من الليبيين ممن كان يجازف بالثقة بنا كأجانب ، ولا أدري أهي شائعة ام انها الحقيقة التي يسعى الخونة لطمسها ! أميل الى تصديق انها الحقيقة التي تتكرر مع ضباط الجيش ، كما حصلت في صراع ليبيا - تشاد و في سوريا . واليوم في العراق.
لم يكن بين الضباط ( الاشاوس ) العراقيين والمسؤلين الرفيعين (!) الذين سلموا الموصل وغيرها على طبق من ذهب لمقاتلي داعش القادمون من كل بقاع الارض ، لم يكن بينهم بطلاً مثلل البطل السوري يوسف العظمة الذي استشهد عام 1920 في معركة دفاعه عن دمشق في ميسلون . الملك فيصل الذي كان يحكم سوريا آنذاك خضع لتهديد الجيش الفرنسي وطالب يوسف العظمة بحل الجيش العربي السوري الذي كان قائداً له. يوسف العظمة رفض حل الجيش حين علم باقتراب الجيش الفرنسي من دمشق وبعث برسالة الى الملك مع بيت شعر المتنبي الشهير ((لايسلم الشرف الرفيع من الاذى – مالم يراق على جوانبه الدم )) وقرر ان يقاتل الفرنسيين دفاعاً عن دمشقه ، وكانت معركة غير متكافأة ، استشهد فيها العظمة . لقد اعطى درساً في حب الوطن ، درساً مغزاه أنك قد تهزم ، ولكن موتك يبقى رمزاً لرفض الذله ، رمزاً للوقوف ضد من يحتل ارضك و يدعس على وطنك .. لقد اعطى العظمة معنىً لشهادته ، يذكرها التاريخ وترويها الأجيال ..واعطى قادة الجيش العراقي ومسؤلي الدولة في الموصل والهاربين بجلودهم درساً في شكل الخيانة والجبن ، وسيذكر التاريخ ايضاً كيف باعوا الوطن وكيف تركوا جنودهم ومواطنيهم الأبرياء فريسة للموت والشهادة.
|