كيف ضاعت الموصل وكيف سيضيع باقي العراق

ها قد وصلنا إلى حافة النهاية وهاهي الموصل تدق جرس الإنذار الأخير للعراق وشعبه! يكتب مالوم ابو رغيف: "وقد مر يوم بكل تفاصيله واتضحت صور الفرار العظيم، لم يتفضل قائد عسكري او مدني ويخبر الشعب كيف ومن اي جهة قدمت قوات داعش! هل نزلت من السماء ام انبعثت من باطن الارض!؟ ... نحن ان لم نسمها عصابات كي لا نوجه اهانة غير مقصودة لا للجيش ولا للقائد العام للقوات المسلحة، اذ من غير المعقول ان تتمكن عصابة من الحقاق الهزيمة بجيش مدرب ومنضم ومقسم الى سرايا وافواج وفيالق وفرق ومجهز بالاسلحة والمعدات واحدث وسائل الاتصالات ويشرف عليه قادة مجربون مثل عبود كنبر وعلي غيدان ومهدي الغرواي وتجبرهم على الفرار."، ويكتب: "المالكي بيده كل السلطات، فهو يشرف على وزارة الدفاع وعلى الداخلية وعلى الامن الوطني وعلى العمل المخابراتي والاستخباراتي وهو القائد العام للقوات المسلحة والقضاء يلبي جميع رغباته، فماذا تمنحه حالة الطواريء اكثر مما يتمتع به الان من صلاحيات؟ بل وما عساها ان تفعل ازاء هزائم الفرار!!" 

وكتب صوت الإنسان الكردي الأمين، امين يونس: "أي عاقلٍ يُصّدِق ، ان ثلاثة فُرق من الجيش النظامي والشُرطة الإتحادية والمحلية ، الموجودة في مركز الموصل ومُحيطها .. أي أكثر من ستين ألف مُقاتِل .. بكامل تجهيزاتهم وأسلحتهم وذخائرهم ، ودباباتهم ومدفعيتهم وطائراتهم .. الخ ، مَنْ يُصّدِق ان كُل هؤلاء ، يعجزون عن هزيمة ، ألفين أو ثلاثة آلاف إرهابي ؟؟! . هل ان كُل واحد من هؤلاء الإرهابيين أو الداعشيين أو تحت أي مُسّمى ، سوبرمان ؟ ويمتلك إمكانيات خارقة ومُذهِلة ؟ . هنالك تفسيرٌ واحد فقط ، لاغَير : أن الجيش والقُوى الأمنية ، لم تُدافِع عن الموصل على الإطلاق ! .. أين شيوخ وعشائر شّمَر والحديديين والجبور .أين أثيل النُجيفي ، الذي حَمل كلاشينكوفه أمام الكاميرات ....وحتى الحزبَين الكردستانيين ، الإتحاد الوطني والديمقراطي .. كيف أخلوا مقراتهم المُحصنة في مركز الموصل ، المحمية من قِبَل البيشمركة ؟  ولماذا لم يصمدوا ويبقوا في أماكنهم ، لكي يعطوا مثالاً للبقية ويشجعوهم على المقاومة والقتال ؟ ."

نعم أخي أمين، لا يستطيع عاقل أن يصدق أن كل ما بقي من كل هذا الجيش الذي صرف عليه المالكي المليارات لتدريبه "بأحدث الطرق العلمية" وتسليحه من قوات الناتو "الصديقة"، ليس سوى قوافل من الأسلحة تنقل من الأراضي العراقية، إلى مقاتلي داعش في محافظتي دير الزور والحسكة!(1) هكذا يزول السراب، ويأخذ معه كل الآمال الموهومة!

والأدهى من هذا وذاك، تدور إشاعات لا نعرف مدى صحتها أن "داعش" هذه تسعى لكسب رضا أهل الموصل، فيبدو أن تكتيكها فيها يختلف عن تكتيكها في سوريا، وأنها نجحت حسب تلك الإشاعات في تهدئة المدينة وصارت تطمئن الناس بأنها ستحميهم من المالكي! فكيف وصل الأمر أن مجموعة "عصابات" تحتل مدينة وتأمل برضا أهلها وطمأنتهم على حمايتها لهم من حاكمهم المنتخب؟

تعالوا نحاول إذن أن نكون ولو مجانين لنصدق ما حدث، ولنستمع إلى من يحاول أن يفسر لنا الأمر. لننظر أولاً كيف يقوم الإعلام بتغطية وتفسير هذه "الأعجوبة"، ولنتمعن في ما قاله اللواء نجم الجبوري خبير الجماعات المسلحة في العراق من مركز “نيسا” في جامعة الدفاع الوطني الأمريكية، كنموذج من التفسير الذي ينقله الإعلام إلينا (أنظر رابط الفيديو في الأسفل):(2)

يرى اللواء نجم الجبوري أن السبب في عجز 4 فرق عسكرية ذات 50 الف منتسب عن مواجهة بضعة ألاف من عصابات داعش، هو "ضياع الهوية الوطنية"! وأن "الجيش ما بقت عنده عقيدة"!. تحدث عن "الإنهيار" وأن "الجنود معنوياتها انهارت عندما عرفت أن قياداتها هربت" وأنها "قيادات ليست بالمستوى الذي يتطلبه الموقف" وهو "يدعو أن يجتمع السياسيين العراقين ويكونوا صف واحد" ويقول "مصيبتنا مع السياسيين" و "إذا السياسيين اتحدوا يكون الجيش أداءه مختلف" .. ويدعو بتكرار وإلحاح إلى التعاون مع البيشمركة، التي يقول أنها انسحبت انسحاباً منظماً ولم تخرج من المناطق المتنازع عليها بل شكلوا طوقاً لحمايتها... 

يبدو لك كلاماً معقولاً وطيباً أليس كذلك؟ أنت مخطئ تماماً عزيزي القارئ، لكن لا بأس، فحالك حال الغالبية الساحقة من الشعب العراقي بأعلى مثقفيه. فقد بلغ إحتيال التفسيرات بما يناسب كل طرف، وتجاهل الحقائق، أقصى حالات الكذب المرتب، وهو ينجح دائماً في إخفاء حقيقته عن المتلقي الذي تم تعويد إذنه على مثل هذه العبارات الرنانة التي تقذف في وجهه باعتبارها حقائق صلبة، وافقده سيل الإعلام القدرة على تمحيص معقولية الإدعاءات التي تطرح أمامه.  

لاحظ أولاً الشبه الشديد بين أسلوب خطابي الجبوري وأياد علاوي عندما يتحدث عن "المصالحة" و إعطاء القيادة لذوي الخبرة وضرورة المشاركة، وكأن مصدر خطابيهما واحد، ومعلمهما واحد! 

وإن انتبهنا إلى المحتوى، فما علاقة "ضياع الهوية الوطنية" بانسحاب كامل لكل القوات العسكرية من المعركة التي لم تحدث أصلاً؟ أية "هوية وطنية" يحتاج خمسين جنديا للوقوف بوجه مسلح واحد يهاجمهم؟ ولنفترض ذلك، فلماذا لم يدافع أي منهم حتى عن "هويته المذهبية" أو "القومية" أو "الإنسانية" أو حتى كرامته الشخصية مثلاً؟ 

أية "عقيدة" يحتاج الجيش العرمرم لمجابهة بضعة عصابات، يزيدها 50 مرة عدداً وعدة وهو في موقف الدفاع؟ عن أي "إنهيار" يتحدث هذا الجبوري القابع في واشنطن في مركز مثير للشبهة، وكيف حدث الإنهيار ولم تجر أية معركة؟ "الإنهيار" يشترط في البدء صموداً أو وقوفاً ، يليه عجز عن الإستمرار ثم السقوط السريع، فكيف "ينهار" من لم يقف على قدمه أصلاً؟ 

وكيف أن "القيادات ليست بالمستوى المطلوب"؟ ماهو "المستوى المطلوب" في مثل هذا الفارق الهائل في القوة؟ أن عريف يستطيع قيادة معركة بسيطة مثل هذه ويربحها! واخيراً كيف أن "المصيبة مع السياسيين"، وكيف يقنع هؤلاء "السياسيون" (لو توحدوا)، جنوداً لم يقاتلوا ولم تحدث معركة؟ وهل تتصور عزيزي القارئ أن هؤلاء الجنود كانوا يتلفتون ليروا ما يقوله السياسيون المعنيون، أو يهتمون به؟ 

إن اللواء نجم الجبوري ليس سوى أحد هذه العناصر الفاسدة في الخندق الإرهابي ذاته. ومن يعرف الولايات المتحدة وأوروبا أيضاً، يلاحظ فوراً أن المنصب الذي يحظى به الجبوري لا يمكن ان يشغله إلا من ترضى إسرائيل عنه، خاصة من العرب. ولو راجعتم مجمل كلامه تجدون القصد الواضح هو إعطاء ساسة البعث (الجناح السياسي للإرهاب في خندق أميركا إسرائيل كردستان) دوراً أكبر، والاعتماد على قوات البيشمركة، المعروفة أصلاً بعدائها للعراق وتآمرها عليه، لتحتل المزيد من الأراضي وتفرض المزيد من الشروط والإبتزاز لأية حكومة عراقية، خاصة إن كانت حكومة هزيلة سرية فاسدة مهووسة بالحكم كما نملك الآن. 

ماذا تقول كردستان التي سارعت إلى تهريب عميلها النجيفي قبل الحادثة؟ قال أحد قادة البيشمركة انهم كانوا يعلمون بالهجوم، وقال البرزاني: "حاولنا حماية الموصل لكن بغداد لم تستجب"!.. وما الذي كان البرزاني يحتاجه من موافقات من بغداد للصمود في مركزه ومقراته في الموصل؟ هل لو أن الحكومة نفسها حاولت إجباره على الإنسحاب من أي من مواقعه، لكان انسحب بهذا الشكل؟ لا...كان سيجلب كل البيشمركة في الأرض ويستنجد بكل الأمم المتحدة في العالم ويثير حلبجة والأنفال ويتهم كل عراقي بأنه صدام، ولا ينسحب من شبر واحد من أراض استولى عليها، أمام الجيش العراقي، اما أمام عصابات داعش، فيبدو الأمر مختلفاً تماماً!  

الأكاذيب والتمويه هي العملة الوحيدة الرائجة في الإعلام العراقي، وبشكل شديد الكثافة والدفة. فحتى إشارة البعض إلى جبن الجيش والقادة أو رشوتهم، هي جزء من الأكاذيب، فلم تكن هناك معركة ليكون هناك جبن، وليس هناك من يستطيع رشوة كل هؤلاء القادة معاً وينسق انسحابهم بهذه الدقة، دون ان يفضح مؤامرته. "الجبن" و "الرشوة" رغم خطورتهما وإدانتهما لؤلئك القادة، فهي أكاذيب للتغطية على حقيقة أخرى أخطر بكثير هي أن هؤلاء القادة يعملون لحساب جهة أخرى غير العراق. جهة تستطيع أن تأمرهم معاً فيطيعونها جميعاً بانتظام مدهش لا نشاز فيه! حقيقة ان قيادة هذا الجيش تتكون من امثال هؤلاء، وان ليس سوى أمثال هؤلاء في قمة القوات المسلحة، وإلا لحدث نشاز ما.. هذه هي الحقيقة وكل ما عداها، مهما بدا الحكم قاسياً، ليس سوى جزء من معركة التمويه على العقل العراقي لتحطيمه وإغراقه في الوهم.

 

حملة "المثقفين" لإنقاذ الموصل 

 

تفضلوا أيضاً بقراءة هذه الحملة(3) التي وقعها ذات الخليط من “المثقفين” الموهومين، إن لم نقل "المشبوهين" الذين اجهدوا أنفسهم ليضعوا رمز إسرائيل، والقـ .. الآخر في البرلمان. فمن بين الكلام الفارغ الكثير فيها، هناك بضعة سطور محددة تتلخص بـ عدم التجديد للمالكي و تسليم الإمور بيد البيشمركة، وإسقاط الحق العام عن المجرمين من النظام السابق، ومصالحتهم، ورفض ما أسمته بـ"العقوبات الجماعية"! وهي كما نرى أهداف ليس لها اية علاقة باحتلال الموصل الذي تدعي الوثيقة أنها جاءت من أجلها، فداعش لا تنتظر "المصالحة" ولم تحتل الموصل من أجلها. والجيش لم ينسحب بتلك الخطة المتقنة من أعلى قياداته لأن المالكي يريد الولاية الثالثة، ولا خسرت جحافل الموصل معركة الدفاع عنها بسبب عدم التنسيق مع البيشمركه! إنهم يريدون إلغاء الميليشيات، علما أن الميليشيات الرسمية الوحيدة الباقية هي البيشمركة، وهي الميليشيات الوحيدة التي تشتبك وتتحدى القوات المسلحة العراقية وتطردها في كل مرة، وترفض الإنصياع إلى أية أوامر لها بل لا تسمح لها بدخول أراضيها! ويريد هؤلاء وفي منتهى الوقاحة، تسميتها بـ "جزء من القوات العراقية" رغم كل الحقائق التي تفقء العيون. إن مجموعة الشياطين الخرس هذه لا تكتفي بالإمتناع عن الحديث عن ابتزازات كردستان للعراق فقط، بل تسعى لدعم المطالبة بابتزاز جديد حول مبالغ رواتب البيشمركة التي لم يكن للحكومة أي دور لا في تعيين أفرادها في ولا تحديد رواتبها ، فأي عراق يريدون واية ثعابين تختبئ خلف صفة "الثقافة" هذه؟ 

 

اما نقطة "العقوبات الجماعية" فليست سوى إشارة إلى المسرحية التي لعبها المالكي مع كردستان في كذبة مشتركة استفاد منها الطرفان عند الإنتخابات عن قطع المخصصات والرواتب، والتي تبين أنها لم تقطع سوى إسبوعين فقط، وعاد تدفق الأموال كاملا إلى كردستان (وليس الرواتب فقط!) رغم عدم إقرار الميزانية ورغم أنها لم تقدم للعراق قطرة نفط واحدة منذ سنتين، وتقوم اليوم بتصدير نفطها بنفسها وعلى عكس القانون العراقي والدولي ايضاً، ووجود نص في قانون الموازنة للعام الماضي يقضي باستقطاع ما لا تدفعه كردستان من النفط الذي هو مخفض مسبقاً لها، وهي تأخذ كل ثمن النفط الذي تصدره وتطالب بحصتها من ثمن نفط باقي العراق، وبزيادات مستمرة في تلك الحصة بأشكال مختلفة وبدون حتى وصولات! ورغم كل هذا يقوم هذا النفر المشبوه بكل المقاييس، بالدفاع عن هذا الإبتزاز لذيول إسرائيل لبلدهم وسلب أموال فقرائهم لمليارديرية لصوص كردستان، ويتحدثون بكل وقاحة عن "العقوبات الجماعية" وكأنهم ببغاءات تردد ما تقوله تلك الجحوش والإقطاعيين. لقد هددت البصرة بأن تلجأ إلى نفس الأسلوب الدنيء لكردستان، فهل سيدعمها هؤلاء ويحتجون على "العقوبات الجماعية" عليها؟ هل يريد هؤلاء "المثقفون" إذن بنفاقهم أو ببلاهتهم غير تدمير العراق بذات أجندة كردستان الإسرائيلية، فقط لأنهم يكرهون المالكي والإسلام السياسي، ويشعرون أن كل الطرق متاحة من أجل ذلك حتى حرق العراق نفسه؟ أم هي رد الجميل لدافع الرواتب للبعض منهم، والأمل بها لمن لم تدفع له بعد؟ من يشعر منهم أنه قد أخطأ أو خدع فليسحب توقيعه وليكتب معتذراً لشعبه وليقف موقفاً مشرفاً في المستقبل، أما هذه الحملة فهي وصمة عار إضافية لذات المجموعة، ولا علاقة لها بالموصل وكارثتها، بل استغلال قبيح لها لتمرير المزيد من الإبتزاز للشعب العراقي، وهي أكاذيب كأكاذيب الجبوري وترويج لذات الأجندة الإسرائيلية!

 

إذن دعونا من هذا الإعلام العدو، وهؤلاء "المثقفين" الذي ابتلى الله العراق بهم مثلما ابتلاه بالبعث والإحتلال، ودعونا نحاول أن نفهم بأنفسنا كيف وصل العراق إلى هذا الحال المريع...أن يكون كبار قادة جيشه تحت إمرة أعدائه، ويتصرفون بحرية ولا يخشون انتقاماً.  

 

أقتلوا من قتل الكلب

 

من قصص الحكم العربية أن قبيلة وجدت كلباً لها مقتولاً، فحار الناس في أمره فذهبوا إلى حكيم القبيلة الشيخ فقال لهم: "اقتلوا من قتل الكلب" ! دهش الناس وتصوروا أن الرجل قد خرف فتركوه. وبعد أيام قتل لهم رجل فذهبوا إلى شيخهم ثانية فقال: "أقتلوا من قتل الكلب"! فترحم الناس عليه وقالوا أن جنونه قد تأكد، فنحن نتحدث عن قتل رجل وهو يتحدث عن قاتل الكلب. وبعد أسبوع هاجمهم الغزو فقتلوا عشرين منهم، فلم يجدوا سوى العودة إلى الشيخ، الذي كرر لهم: أقتلوا من قتل الكلب! 

 

الحكمة في القصة هي أن الحوادث الصغيرة قد تكشف خللاً خطيراً قد ينمو إن تم تجاهله وعدم مواجهته مبكراً، فسيتسبب في الكوارث عاجلاً أم آجلاً. معظم الكوارث تعطي ضحاياها إنذارات متعددة مسبقة كأنما لتخلص “ضميرها” ولسان حالها يقول لضحيتها "قد أعذر من أنذر"، وبعد الكارثة ستقول: "على نفسها جنت براقش". وكارثة الموصل ليست مختلفة عن ذلك. لقد تجاهلت الحكومة وكل مؤيدوها، وكل المعارضة ومؤيديهم أيضاً، الحقائق الصارخة والواضحة كالشمس واحتضنوا الأكاذيب، مرة بعد مرة. لم تكن كارثة الموصل إلا النتيجة الحتمية لسلسلة الكوارث الأصغر التي سبقتها وفشل العراق المشلول التفكير أن يواجه حقائقها. 

 

دعونا نراجع تلك الحقائق التي حذرنا منها في وقتها وأكدنا على خطورتها، لننظر معاً إن لم تكن كلها تؤشر إلى ما ينتظر العراق من كوارث، وهل جاءت هذه “مفاجئة” لنعفي المالكي والحكومة ومؤيدوها من مسؤوليتها؟

 

اعتصام الفلوجة

 

في أحداث اعتصام الفلوجة حادثة صغيرة بحجم حادثة "قتل الكلب"، ولها حجم دلالتها ايضاً. فكما تذكرون، انتهت المساعي الحثيثة لحل المشكلة بين الحكومة والمعتصمين، بحادث إطلاق نار بين هؤلاء وبين الجيش الحكومي سقط فيها ضحايا من المعتصمين. وبعد الكثير من الإتهامات المتبادلة بين المعتصمين والجيش عمن بدأ أطلاق النار على الآخر، احتار الناس فيمن تصدق ومن تتهم بالكذب. أنا من ناحيتي صدقت أن المعتصمين هم الذين اطلقوا النار لأن المنطق يقول أن الجيش الحكومي، كمؤسسة منضبطة، لا يمكن ان يجهض بنفسه مساعي حكومته لحكم البلد، بمثل هذا العمل الأخرق. اما المعتصمون فهم خليط من كل صنف ويحتوي على الكثير من العملاء المكلفين بإثارة المشاكل في العراق، فبمن نشك؟ كتبت رأيي هذا مع التحفظ عن عدم التأكد منه فعلياً. ثم عرضت قنوات التلفزيون فلماً يبين أن أحد رجال الجيش كان يطلق النار على المعتصمين واقفاً في العراء، وكان واضحاً أن أحداً لم يكن يطلق النار عليه بالمقابل! وقد أكدت لجنة التحقيق المتعددة الأطراف هذه الحقيقة بوضوح أيضاً. 

كان هذا دليلاً حاسماً ليس فيه أي مجال للشك، إلا لمن يريد أن يخدع نفسه “عن سبق إصرار وترصد” ، بأن هناك اختراقات خطيرة في أجهزة الجيش تهدف بالذات إلى إثارة الفتنة والمشاكل للحكومة وإثارة الناس في المنطقة الغربية ضدها. وحينها كتبنا أن هذا الجندي كان يطلق النار على المالكي في حقيقة الأمر، وليس على المعتصمين، وأنه يجب التحقيق معه ومعرفة ما وراءه. فليس من المعقول أن يبادر بنفسه إلى ذلك. هل قام أحد بالتحقيق في هذا؟ هل عرفنا أو عرفت الحكومة من هو الجندي ولماذا كان يفعل ذلك ومن أمره بذلك ومن يقف وراءه؟ كل ما حصلنا عليه هو مجموعة من المخادعات الكلامية والأكاذيب تلو الأكاذيب الحكومية، ولا كأن الأمر يهدد تلك الحكومة بالذات وبلدها بالذات وشعبها بالذات! الحكومة كانت تبدو، ومن خلال تعليقات متناثرة من بعض قادة كتلة المالكي، سعيدة بالتفسيرات الطائفية السخيفة المنتشرة، وخاصة تلك التي تقول أن "السنة لا يستطيعون الحياة خارج الحكم"، وإن احتجاجاتهم ليست سوى السعي لـ "إستعادة" الحكم من الشيعة، وأن مجرد "التشكيك بالجيش" خيانة. 

 

حيثما يتواجد الجيش، تنشط القاعدة

 

وجاء الهجوم على العسكري على داعش في الفلوجة والرمادي، وكانت نتيجة العملية التي تم التطبيل والتزمير لها ولبطولاتها أن دخلت داعش المدينتين بكل قوة، وصار واضحاً منذ ذلك الحين أنه حيثما يتواجد الجيش، تنشط القاعدة وتحتل المدن!! فهل سمع أحد بعصابات تحصن مراكزها وتتقدم حينما يهاجمها الجيش، بدلاً من الفرار والتشرذم؟ لم يثر ذلك التساؤل الطبيعي لأي إنسان طبيعي الحكومة أو غيرها، ولم يتوقف أحد عند تلك الحقائق، بل كان الهتاف ببسالة الجيش وانتصاراته يملأ وسائل الإعلام واليوتيوب، وكان برواري يسجل أفلام الفيديو لتمجيده. الناس في الفلوجة الرمادي يشتكون بأنهم يقصفون، والحكومة تهتف بحياة الجيش وتقديسه ومنع التشكيك به، وكأن منتسبيه قد رشحوا من قبل نبي من السماء! بالنسبة للحكومة (ولمؤيديها أكثر منها)، فإن كل ما يقوله قادة الجيش، مهما أثبتت الأحداث كذبه، يحظى بالتقديس والهتاف، وكل ما يقوله السنة مقدماً هو كذب وتآمر لا يستحق الإهتمام ، ومن يلفت الإهتمام إلى شكواهم متآمر معهم! فأي جو أفضل من هذا لدفع الناس إلى اليأس والبحث عن أي حل أحمق؟ سواء جاء من القاعدة أو من إسرائيل أو من عملائهم الذين لا يكلون عن عرض بدائل التقسيم الواعدة بالحرية والسعادة؟ ومثل كل مرة، مضى احتلال داعش للفلوجة والرمادي وكأن شيئاً لم يكن: لا حقائق ولا تحقيق، لا تحليل ولا إجراءات .. هكذا تدفن في كل مرة حقيقة أخرى في التراب، ومن يكيل التراب على الحقائق الخطيرة، يكيل التراب على جسد البلاد ايضاً....

 

احتلال مدينة عنه بمباركة حاميتها 

 

وجاءت عملية احتلال مدينة عنه، وامتناع حاميتها العسكرية التي ترابط على بعد بضعة مئات من الأمتار  عن التدخل، دون أن يثير مثل هذا التصرف ومعانيه ومؤشراته الخطرة، قلق الحكومة الرعناء! لقد تمكن الناس برشاشاتهم البسيطة من ردع "داعش" ومقاومتها منذ منتصف الليل حتى الصباح، دون أن تتدخل تلك القوات "العراقية"، فكيف لو كانت قد تدخلت!؟ لسبب ما كانت داعش متأكدة أن تلك القوات لن تزعجها، فاستمرت في عملها وفجرت الجسور خوفاً من قدوم قوة خارجية، أو لإعطائها تبرير لعدم قدومها. وفي الصباح، عند انتهاء العملية واليأس من تحقيق أهدافها، وتماماً كما حدث مع البيشمركة برواري، جاء الجيش ليستكشف المكان ويتظاهر بمطاردة الإرهابيين الذين منحوا المجال للإنسحاب والإبتعاد، ولم يمسك بأحد منهم طبعاً. وكتبنا وكتبنا، لكن الحكومة التزمت الصمت المشبوه كالعادة، والتزم مؤيدوها الصمت الأبله المستلذ بتفسيراته الطائفية البلهاء وشماتته بالسنة. فلم تكن هناك حكومة مسؤولة عن بلد، ولم يكن هناك شعب ولم يكن هناك صحافة أو مثقفون أو سياسيون يجري في عروقهم دم البشر أو في رأسهم اي فكر أو ضمير. فالغالبية الساحقة من كتاب الشيعة كانت تتشفى في حقيقتها من هذا وفرحة به، انسجاماً مع نظرية أن السنة هم وراء القتل للشيعة وأن أسس ذلك طائفية، وأيضاً بتجاهل مئات وألاف الأدلة التي تدحض هذه النظرية الخطرة. وموقف الحكومة ومؤيدوها هنا أبله بامتياز إضافة لكونه طائفي، وتهمة "البلاهة" هنا افتراضية لحسن النية النسبي، وان المشاركة في الإرهاب لم تكن مقصودة. فحتى لو كان هناك فكر طائفي خبيث وذكي، فيفترض أن يفكر بأن يمسك بالقاعدة على الأقل بعد انتهائها من مهاجمة "أعدائه" السنة، دع عنك أن يفكر كيف ولماذا تهاجم القاعدة السنة؟ وألا تحطم تلك الحقيقة ما يراد له أن يفهمه أن السنة يحتضنون القاعدة ليقضوا على الشيعة؟ لم يكن لأي من تلك الأسئلة مكان في رأس أي عراقي مسؤول أو "مثقف" أو حتى مواطن بسيط غير مختل. لم يكن لتلك الحقائق مكان سوى الدفن في مقبرة الحقائق المسماة "عراق" .. تلك المقبرة التي تسير بمن تحتضنهم نحو هاوية جهنم! 

 

سجن أبو غريب: فضيحة الصمت عن فضيحة 

 

وعلى اية حال فقد جاءت فضيحة سجن أبو غريب، ويفترض أن تكون الحكومة والساسة والعسكر والشعب كله قد اكتشف من خلالها أن "القاعدة" لا يمكن ان تكون "سنية" بهذا المعنى، وأن مثل تلك الخطة الجهنمية لا مفر من ان تكون من فعل اجهزة داخل أعلى القوات الأمنية من الشيعة والسنة على السواء، وبشكل مدروس ودقيق من جهة تنظم وتدير هذا الإختراق بحرفية عالية، وأن لا علاقة للطائفية والأحقاد والحسد وبقية الخرافات بذلك. رغم كل هذا بقيت وسائل الإعلام العراقية المعادية للشعب العراقي تلقي باللوم بخبث على الخلافات وتدعو إلى التفاهم ووحدة الصف ونبذ الطائفية، حامية بذلك الفاعل الحقيقي من تسليط الضوء، واستمر المثقفون المخدوعون منهم والمأبونين، يلوكون تلك "الأسباب" في "تحليلاتهم" ويرجعون الكوارث إليها، ويغضون النظر عن الحقائق الكبيرة التي لا يمكن أن تفسرها تلك التحليلات المستندة على الأوهام الإجتماعية والتاريخية والوراثية، مساهمين في استمرار ضلال الشعب وعماه عما يجري حوله من تآمر علمي متقن ورهيب عليه وعلى بلده.

كانت حادثة السجن جديرة بأن تقيم الدنيا ولا تقعدها في أي بلد فيه حكومة، فيها ولو بعض عقلاء، او معارضة فيها ولو بعض شرفاء أو مثقفون فيهم ولو بعض أمناء، لكنها جاءت في زمن الجدب في العراق، زمن تغلى فيه عقول الناس فيه بالإرهاب وبانقطاع الكهرباء وبحرب كيمياوية إعلامية تملأ الجو بالسموم، فدفنت حقائق فضيحة سجن أبو غريب مع بقية الحقائق، ووضع العراق على الرف في انتظار الكارثة التالية.

 

مجزرة بهرز: رجال شجعان وحكومة رعناء

 

طبيعي أن تلك العمليات تخدم الخندق المعادي في اكتشاف مدى رد فعل الناس والحكومة عليها، وإن كان ضميرها يهدد بالإستيقاظ وجبنها يهدد بالنفاد، وإن كانت التغطية على خونتها وأعدائها في داخل قواتها المسلحة مهدد بالكشف. وفي كل مرة يطمئن هؤلاء بأن "كل شيء هادئ في العراق" وتعطى الإشارة ليمضي الإرهاب نحو خطوته التالية. وهكذا جاءت مجزرة بهرز، لتؤكد مرة أخرى وهم الجيش الوطني من جهة وخرافة علاقة السنة بالقاعدة من الجهة الأخرى، فقد كان جميع الضحايا هذه المرة من السنة. وكان واضحاً حتى للأعمى، ومن خلال شهادات الشهود أن قوى من الجيش وخاصة السوات كانت جزءا من العصابة الإرهابية، وطرح ذوي الضحايا والبهرزيون الآخرون الحقائق والأسئلة بشجاعة متناهية وهم يعرضون صدورهم لرصاص داعش ورصاص سوات، حيث لا حامي لهم منها في بلد "ولي الدم". 

 

تلك الحكومة الرعناء لم تستفد حتى من شجاعة هؤلاء وتضحيتهم لكي تكتشف شيئاً أو تعرف حقيقة ما قد تقودها إلى الإرهاب الذي يدمر بلدها وشعبها الذي تورط بها وببقية ساسته المأبونين، بل كان من الواضح أنها تخشى أن تقودها الحقائق إلى الإرهاب الكبير وتضطر إلى مواجهته أو افتضاح تخاذلها، ولم يتخذ أحد أي إجراء أو يتم أي تحقيق. أما المثقف العراقي فكان مشغولاً يفلسف الحدث باحثاً في بطون القرون الماضية عن سالفة سخيفة يؤكد من خلالها أن الشعب العراقي عنيف وطائفي بطبيعته وأننا "يجب أن ننظر إلى الخلل فينا أولاً"، فيدعى تكريماً لاكتشافه لهذه الأضحوكة "العلمية" إلى المؤتمرات لينشر هذه الأكاذيب المضللة في أوسع مجال ممكن، وليدل بدلوه في حملة دفن حقائق الحاضر الشرسة بتراب حقائق وأكاذيب الماضي السحيق على السواء، وتفسيراته الشخصية لها، ويساهم في دفع العراق إلى مصيره الذي تريده إسرائيل له، عالما بذلك او جاهلاً، وليعطى الضوء الأخضر مرة أخرى للإرهاب أن يمضي نحو خطوته التالية. 

 

ولا بد من كلمة حق هنا، فقد يكون هناك كتاب حاولوا الدفاع عن الحقيقة فحرموا النشر. فقد توصلت من تجربتي مع موقع عراق القانون وغيره، إلى أن عملية الحماية الإعلامية لعملاء إسرائيل في الجيش عملية دقيقة ونشطة. فبعد سنوات من النشر في موقع "عراق القانون" الذي كان يكشف مهمته غير المشرفة المكلف بها في إثارة الصراع الطائفي وحتى الدفاع بين الحين والآخر عن إسرائيل ودفع الشيعة بعيداً عن الإسلام، كما يمكننا أن نبرهن، أمتنع الموقع لأول مرة عن نشر مقالة لي عن مجزرة بهرز بصراحة! وحين أصررت وهددت بكشف الأمر للقراء وبينت أن المقالة لم تكن سوى نقل لوجهتي نظر الحكومة والضحايا، وتهدف إلى مد جسور التفاهم بينهما، وافق الموقع ونشر المقالة. وبعد ساعات أغلق الموقع لأكثر من يوم كامل، ليعود مع كل مقالاته السابقة على الصفحة الأولى دون تلك المقالة، التي أزيل عنوانها من الصفحة الأولى ووضعت في الإرشيف قبل أوانها! وفهمت أن "مد جسور التفاهم" بين أطراف العراق يعتبر معاكساً تماماً لأهداف الموقع، وأن هدفه بالذات تحطيم تلك الجسور، وأن لهذه المهمة من الأولوية أن يفضح صاحب الموقع مصطفى الحسيني وفريق عمله حقيقته التي كشف جزءاً منها قبل ذلك بقرارات أقل أهمية ووضوحاً. ولعله لم يكن سعيداً بهذا الفضح لنفسه، لكن الأوامر كانت حاسمة، مثلما كان "السيد" حاسماً وأجبر رزكار عقراوي صاحب "الحوار المتمدن" على فضح نفسه أكثر مما فضحناه، بنشر إعلانات الموساد وتلفوناتها لمن يعرف شيئاً عن شاليط! إن حياة العملاء ليست سهلة دائماً. عراق القانون يقوم اليوم بتشكيل "جيش إعلامي" لحماية العملاء وتغطية فضائحهم لتأمين الخطوة التالية، وانا واثق أن دفاعه المستميت عن المالكي ليس إلا تظاهراً، وأنه سينقلب عليه عندما تأتي الأوامر، كما سينقلب عليه الكثير جداً من وعاظ السلاطين، فمن يحمي المالكي لا يمكن أن يمنع عنه رؤيته لوجهة نظر الآخرين ويحرمه فرصة الوصول إليهم. مهمة هؤلاء دفعه بعيداً، ورفع الإستقطاب في البلد إلى أقصى حد ممكن، وكل ما عدا ذلك حركات مسرحية.

 

شكاوى السنة الذين لا يستطيعون الحياة إلا بالحكم

 

قبل مجزرة بهرز كنت قد كتبت مقالة جمعت فيها شكاوى من الناس في الأنبار والموصل. أناس أعرفهم شخصياً، لا اثر للطائفية في رؤوسهم أو الكذب وكانت قصصهم كلها تؤكد أن الجيش في تلك المناطق يبتزهم ويهينهم ويعتقل بشكل عشوائي ويجبرهم على دفع الرشاوي الضخمة من أجل إطلاق سراح أبريائهم ليعيد أعتقالهم ثانية كلما احتاج منتسبيه إلى المزيد من المال. وكان واضحاً أن هناك هدف مركزي بتحطيم علاقة الناس في الغربية بالمالكي وبجيشه استعداداً لتقديم البديل: التقسيم، و "طبخ" الناس من أجل تجاوز وطنيتهم ورفضهم لمشاريع بايدن. ومن المؤكد أن ليس كل منتسب صغير في الجيش هو ضمن الخطة العامة، لكن من المؤكد أيضاً أن قيادة تحافظ على استمرار هذا الحال رغم أن أخباره تطرش الآذان، ليست مجرد قيادة مرشوة أو طائفية كما يتوهم الجميع، بل قيادة لها ارتباطات مركزية وتعمل بدقة وتحت تغطية تؤمن سلامتها أثناء تأديتها لـ "واجبها" الخطير.

 

التفسير البديل الذي أقنع به خندق الحكومة نفسه ليرفض الإستماع إلى أية شكاوى من السنة بشأن الجيش وتصرفاته هو ان "السنة يريدون الحكم، ولا يتحملون أن يكونوا خارجه"، وهو أكثر تفسير أبله سمعته في حياتي، لا يصدقه إلا من يريد أن يبعد الحقائق عن وجهه حتى لو كان ذلك بأسخف التبريرات، فهل يحتاج من يرى جندي الفلوجة يطلق النار واقفاً على الناس أن يكون طامحاً للحكم لكي يكره الجيش والحكومة التي لا تحقق معه؟ أنا من السنة، وأؤكد أن "السنة" بغالبيتهم الساحقة لم يشعروا يوماً بأنهم كانوا يحكمون، حتى لو شعر الشيعة بأن الأمر كذلك. السنة كانوا يشعرون ان صدام يحكمهم وعائلته، كما يحكم غيرهم بالنار والحديد. فحتى عشيرته كانت ليست موحدة معه، وتآمر بعضهم عليه وخسر حياته جراء ذلك. لكن هذه "الحقيقة" كانت محكومة بالدفن حيةً، مثل حقيقة ان منتسبي البعث من الشيعة كانوا أكثر من السنة عدداً، ومثل تقرير الحكومة ذاتها الذي يبين أن مناطق السنة قد ضربت بالإرهاب وفقدت من الضحايا أكثر مما فقدت المناطق الشيعية والكثير غيرها سابقاً ولاحقاً. كلها كانت حقائق "غير مناسبة" يجب أن تزاح لكي تفسح الطريق للمد الطائفي المنتعش، يدفعه الإعلام المؤسس أمريكيا وقوى مجهولة في غاية التنظيم والكفاءة، وحكومة مذلولة تريد البقاء بأي ثمن، فيجب أن لا تزعج الكبار في مخططهم، فاكتفت هي ومؤيدوها بهذه "الأقصوصات" واعفوا أنفسهم من التحقيق والحقائق المزعجة، وتركوا الإرهاب والإستقطاب يغور في عمق المجتمع والبلاد.

 

الإنسان المستقطب يتبنى الأكاذيب ويحميها

 

إن خير أداة لدفن الحقائق والفضائح وتأمين استمرار عمل العملاء هي الإستقطاب: تقسيم الشعب إلى أجزاء منفصلة متناقضة ومتعادية تقوم كل منها باحتظان والدفاع عن فريق من اؤلئك العملاء، فلا تحتاج أميركا وإسرائيل وكردستان إلى أن تكلف بجهد الدفاع عنهم إلا عند الضرورة. 

 

بفضل هذا الإستقطاب، مهما يرتكب جيش المالكي من خيانات، فالتشكيك فيه هو"الخيانة" بالنسبة لمؤيديه! إن إقناع عدد كاف من الناس بهذا، يؤمن لجناح الجيش من الإرهاب أن يستمر في عمله مطمئناً. إن دليلي على ذلك هو ان أحداً من القادة المتهمين بالخيانة والهرب من الموصل لن يعاقب، وعلى الأقل فلن يتم إعدام أحد على الإطلاق، وفي أقصى الحالات، لن تصل تلك العقوبة إلى أية رتبة كبيرة..فالمهمة لم تنته بعد. هذا ما حدث لأبطال فضائح الماضي وما سيحدث لأبطال هذه الفضيحة، لأن العملاء بحاجة إلى حماية الإستقطاب هذا لكي يعملون باطمئنان، ويسقطون بخياناتهم المزيد من المدن، والأيام أمامنا!

 

ولكي نكتشف مدى ما وصل إليه الإستقطاب في العراق أسوق هذه الحادثة: في الحملة المفترضة للحكومة لقصف داعش بواسطة الطائرات المسيرة بدون طيار، عرضت الحكومة مجموعة أفلام على اليوتيوب تصور حسب ادعائها عمليات قصف تلك الطائرات. وسرعان ما اكتشف البعض أنها أفلام للقصف الأمريكي لأفغانستان تم استنساخها وقلب الوانها الأسود بالأبيض وبالعكس. ورايت بنفسي على موقع عراق القانون الداعم للحكومة، أحد المعلقين يكتب متاسفاً أنه رأى الأفلام التي أكدت الحكومة رسمياً صحتها، وأفلام الناتو في أفغانستان، وهمس بخجل بأن أفلام الحكومة مزيفة كما يبدو، فيجيبه آخر بتعنيف ان لا يروج مثل تلك القصص التي تريد النيل من عزيمة الجيش وتدعم داعش! فيعتذر الأول وينضم إلى جوقة الهتافة للجيش! الحكومة تخدع ناخبيها خدعة صريحة، ويكتشف الناخبون الخدعة الخطيرة التي تبرهن ان عمليات القصف ليست حقيقية، لكنهم يعودون بكل روح قطيع الخراف ليبعدوا عيونهم عن تلك الحقيقة ويعودون للمأمأة بعظمة الجيش ومختار العصر ورجل المرحلة! 

لا مكان في شعب تم استقطابه بسموم الإعلام العلمي الدقيق، للحقائق مهما كانت واضحة وخطيرة، بل وخاصة إن كانت واضحة وخطيرة...الأكاذيب والشعارات السخيفة وحدها تملأ العراق...تتقاسمها أقطابه وتتبنى الدفاع عنها كأنها أولادها، وتدفع بالبلد إلى مصيره المخطط بخطى حثيثة..إن الشخص المستقطب يتحمس للحقيقة بشدة ويبذل جهده لكشف الفضيحة، بشرط أن تكون حقيقة خصومه وفضيحة خصومه، حيث ليس له أي قدرة في التأثير، فمن يستمع إليه هو جماعته فقط، قطبه فقط، الذي لاتصل أصواته إلى القطب الآخر المعني بتلك الحقيقة وتلك الفضيحة، والقادر على التعامل معها.

 

موقفي من المالكي وخصومه

 

إذا استبعدنا أن المالكي هو من أمر بإطلاق النار على المعتصمين في الفلوجة، وأنه لم يكن جزء من مؤامرة الهجوم على سجن أبي غريب ولم يكن قد أعلم مسبقاً بمذبحة بهرز، لكنه رغم كل ما حدث، رفض التحقيق مع من فعل ذلك، فلا بد انه يعرف من يقف وراء تلك الجرائم ويعرف قوته، ويريد أن يتجنب مواجهته. هذه الحوادث وغيرها، ومواقف الحكومة منها، لا تفسير لها إلا بأن المالكي قد اتفق ضمناً أو صراحة مع جهة عليا (ولا عال في الأرض إلا أميركا)، ان لا يتدخل في الشأن الأمني أو العسكري في العراق، وأن يطلق يد العناصر التي عينتها الجهات الأمريكية الإسرائيلية لتنفيذ الإرهاب في البلاد، والعناصر التي عينتها للسيطرة على الإعلام لتغطية فضائح الأولين، مقابل السماح له بالبقاء في منصبه. 

من الواضح بالنسبة لي أن المالكي لم يكن جزءاً من تلك الأجندة فهي موجهة ضده وتحرجه وتكسبه الأعداء قبل أي شخص آخر، فلماذا قبل بها؟ لنتذكر ان المالكي في الأنتخابات قبل الأخيرة اضطر للوقوف صراحة بوجه النهج الأمريكي بفرض عملائهم من بقايا البعث على الإنتخابات حين وصلت حداً يهدد سلطته، وأنه تجرأ لأول مرة بتهديد السفير الأمريكي بالطرد من البلاد كما صرحت جهات حكومية، واضطرت السفارة إثر الضجة أن تنشر بياناً تؤكد فيه أنها لا تريد إعادة البعث. 

لكن المالكي بعد طبخه وتليينه لاربع سنوات لم يعد يستطيع قول أية "لا" لأميركا، مهما شعر أنها خطر عليه نفسه. ربما لم يتخيل مدى عدوانيتها وخطرها، وربما توقع أن تنتهي تلك العدوانية بعد أن يرضيها بالكثير من التنازلات الإقتصادية لذيولها، وربما فرض عليه الأمر بقوة لا نعرفها، لكنه حين وافق على ما فرض عليه فهو يتحمل مسؤولية ذلك، ولا شك أنه يعلم بما حدث ويحدث من خلال الحقائق التي تراكمت لديه خلال حكمه، لكن حبه الشديد للسلطة التي "بعد ما ينطيها"، جعله شخصاً ضعيفاً يتساهل بكل شيء، ويأمل أن يتمكن من تبرير أفعاله ببعض الأكاذيب التي تنطلي على مؤيديه على الأقل، فقامر بمصير العراق وشعبه في هذا الطريق وأغمض عينيه عن الدم و كل الحقائق رأيناها والتي تؤكد أن القصد هو تحطيم العراق، والتي يعرف هو منها بلا شك بحكم منصبه، أكثر مما نعرف بكثير. إنني لا أجد للمالكي تفسيراً يبرئه من المشاركة في الإرهاب، إلا باتهامه بهذا التخاذل، وهو أهون التهمتين، ومن لديه تفسير ثالث فليتفضل به.

 

إنني ضد المالكي تماماً، وأرى أنه سبب رئيسي في مصائب العراق بسبب رغبته العارمة في الحكم بأي ثمن، وبسبب ضيق تفكيره وسرعة لجوئه إلى الخداع الذي يتصور أنه يمكن ان يحل له كل المشاكل، مادام مؤيدوه سيصفقون لكل كلمة يقولها مهما كانت واضحة الخطأ أو الكذب مثل "ولي الدم" و "بطولات أحمد" و "خوارق حكمته العسكرية في الصولات"، وكنت أتمنى ان تكون له من الرجولة ما يكفي للتخلي عن الحكم لآخر من رفاقه لسحب البساط من تحت الذين يبررون مواقفهم المتخاذلة، بالخوف من دكتاتوريته التي أصبحت مقلقة بالفعل. 

 

هذا رأيي بالمالكي، لكن بالمقابل، ها أنتم ترون أي نوع من البشر هم المطالبين بتنحيته، وما الذي يخبئونه للبلاد. الساحة اليوم، وبفضل تلك السلسلة الطويلة من جرائم دفن الحقائق الخطيرة التي شارك بها الجميع، صارت كلها لأعداء العراق، وإن أرادوا إزالة المالكي فليس إلا لأنهم أعدوا لنا عميلاً مباشراً لإسرائيل، مثلما حاصرونا قبل شهرين بين الطائفية وقبول رمز إسرائيل في البرلمان. 

 

تشير الأحداث أن أميركا وإسرائيل وكردستان لا تريد المالكي رغم ما قدم لهم من خدمات وتنازلات وخضع لابتزازات هائلة، فهم يرون في الباقين ممثلين أفضل لخطتهم. ليكشف من يريد إزاحة المالكي عمن يريدونه بديلاً لنرى: فإن كان الجعفري أو الشهرستاني اللذان يصر عملاء إسرائيل على إزاحتهما، فنحن مع تغيير المالكي، اما إن كان المراد علاوي أو عادل عبد المهدي أو الآلوسي فاللعبة مكشوفة، وهي ليست إلا الوجه السياسي الآخر لداعش التي وصلت إلى الموصل، ونفضل للعراق الدكتاتورية أو التخلف أو حتى الفناء، على أن يتحول إلى هراوة بيد أعداء الإنسانية.. إلى مركز تفريخ إرهابيين في المنطقة لحساب إسرائيل وأميركا كما يريد هؤلاء له أن يكون! هذا هو مايريد المنادون بإزالة المالكي، ونحن محاصرون بينهم وبينه، وخيارنا صعب وقاس، وليس للعراق أبناء يقدمون له خياراً آخر في محنته هذه!

 

الخاتمة:غداً بغداد؟ ما المانع؟

 

هذا هو إذن حال العراق وحال حكومته ومعارضته ومثقفيه، فهل بقي بعد سلسة تجاهل الحقائق الطويلة هذه من عجب أن نصل إلى ان تحتل مجموعة عصابات ثاني مدن العراق المحمية بكل تلك القوات؟ هل لمن تجاهل “قتل من قتل الكلب” كل تلك المرات أن يحتج أن يقتلوا ثاني أكبر وأعز مدنه؟ بل هل من المستحيل أن يتطور ألأمر ليصل إلى عاصمته نفسها؟ أليس ممكناً تصور سيناريو يختلف قليلاً ليحقق ذلك، كأن يتقاسم السيطرة على المدينة جناحي إرهاب، سني وشيعي، يعملان معاً وينسقان من وراء الستار ومن خلال السفارة؟ 

لم نستطع ان نصل بخيالنا إلى ما حدث في الموصل ولم نقدر حتى على تخيله ممكناً قبل أن يحدث، فلنصل به إلى ما يمكن أن يحدث لبغداد قبل أن يحدث، ولنتذكر أن كل شيء ممكن ما دام تجاهل الحقائق الهائلة مستمراً...ومادام من قتل الكلب وقتل معه أبناء العشيرة وبناتها، مازال حرا، ومازال يحصل في كل مرة على الحماية من التحقيق وعلى الضوء الأخضر ليقتل المزيد في هذا الوطن المحتضر.