من الذي باع الموصل؟ بعض أهلها وعشائرها؟ قيادات جيشها؟ محافظها ومجلس محافظتها؟ أم كل هؤلاء مجتمعين؟
لقد علمنا الزمن المر أن ما نراه على الأرض من أحداث جسام هو مجرد ناتج لصفقة عقدت بين لاعبين كبار لا نراهم. من الذي أبرم صفقة الموصل؟ الأميركيون؟ الإيرانيون؟ الأتراك؟ أطراف عربية؟ أطراف سياسية محلية؟ أم كل هؤلاء مجتمعين؟
سيأتي يوم نعرف فيه ما حدث، أو بعضه. سنعرف من الذي باع ومن اشترى وكم كانت حصة كل طرف. سنعرف من خطط ومن نفذ ومن استقدم داعش ليستخدمها قوة ضاربة على الأرض. وحتى يأتي ذلك اليوم، أنا على يقين تام من أمرين:
أولهما، إن أهل الموصل لا يبيعون مدينتهم، لا لداعش ولا لغيرها. هؤلاء قوم شديدو الاعتزاز بهويتهم ولهم تاريخ ممتد من الالتحام مع العراقيين وإثراء حياتهم المشتركة بالثقافة والمعرفة. كما انهم قوم محافظون يتمسكون بتقاليدهم، ويستحيل أن يسمحوا لعناصر داعش، المهووسة بالجنس والحور العين، أن تحكمهم أو تقترب من حياتهم. كانت في الموصل خلايا نائمة وحواضن تلبد فيها؟ نعم، ولكن من منا يعرف شيئا عن خلايا نائمة في مدن العراق الأخرى كي يتهم أهالي الموصل والرمادي والفلوجة بأنهم حواضن للإرهاب؟ وكم كان يبلغ عدد هذه الحواضن في محافظة مثل نينوى يسكنها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة؟
ثانيهما، ان الجيش العراقي لم ينهزم في الموصل، إنما خذله قادته الذين كان فرارهم جزءا من الصفقة. صرح يومها وزير البيشمركة بأن أكثر من أربعمائة ضابط برتب عالية دخلوا إقليم كردستان، عدا القيادات العليا للجيش. هكذا ترك عشرات الآلاف من الجنود تائهين في شوارع الموصل وأزقتها بلا قيادة ولا تنسيق بين القطعات. هؤلاء هم (أولاد الملحة) الذين لا شأن لهم بصفقات الكبار، لا يخذلون شعبهم ووطنهم حتى عندما يكون تدريبهم ضعيفا وتسليحهم ناقصا وأرزاقهم شحيحة، ولسبب بسيط جدا، أن لا ملاذ لهم غير هذه الأرض.
تشير الأنباء المتواترة من الموصل أن داعش قد انتهى دورها مع انتهاء صفحة الاقتحام الأولى، إذ لا محاكم شرعية ولا فتاوى تكفيرية ولا حرقا للمنشآت ولا تخريبا للبنية التحتية، هكذا قضت بنود الاتفاق معها على ما يبدو. من يمسك بزمام المدينة اليوم هم البعثيون والنقشبنديون ومجموعة من ضباط الجيش السابقين، وهذا ما أكده ممثل الأمين العام للأمم المتحدة أيضا. ولأن البعثيين سياسيون ولديهم خبرة حكم لسنوات طويلة، عمدوا إلى استرضاء أهالي الموصل عن طريق تقديم بعض الخدمات وتنظيم الحياة المدنية فيها وحفظ الأمن، وهذا ما كان ينقص الموصليين تحديدا. لكن على أهل الموصل أن يستذكروا التاريخ ليعرفوا ما الذي سيفعله البعثيون بهم بعد أن يستمكنوا. كما عليهم أن يتذكروا كم ضابطا لامعا من أهالي الموصل أعدمه الطاغية في نوبة غضب، وكم ألف شاب من أبنائهم التهمته حروبه العبثية.
ما الذي علينا فعله في هذا الموقف العسير؟ يصعب علي أن أقتنع بأن ما نحتاجه اليوم هو آلاف المقاتلين المتطوعين لأن الجيش لا يحتاج إلى أعداد إضافية، ولن ينفعه في شيء جيش رديف لم يقل لنا أحد ما ستكون مهمته. ولا أرى في حملات التحشيد للتطوع إلا محاولة لشحذ الهمم وامتصاص نقمة شعبية عارمة غلفت بغطاء طائفي واضح.
يروي التاريخ أن سيف الإمام علي كان ذا نصلين. وبصرف النظر عن مسألة الاستخدام العملي لهذا السيف، إلا أنني أرى فيه رمزا لشرطين ينبغي أن يتوافرا لكسب أية معركة: القوة والحكمة. لن تنفعك القوة إن كنت تتخذ قرارات حمقاء، ولن تفعل الحكمة شيئا إن لم تسندها بالقوة. لذا فإن تعزيز قدرات الجيش وإعادة هيكلة قياداته ينبغي أن يترافق مع الحكمة. والسياسة لا تعرف صداقات ولا عداوات، فمن كان عدوك بالأمس يمكن أن يصبح صديق اليوم، ومن كنت تظنه صديقا يمكن أن يوقعك في حفرة لن تخرج منها. هكذا هي السياسة ومن يدخل عالمها عليه أن يلعب وفقا لشروطها. والسياسة تقتضي اليوم أن يجلس حكماء الأطراف المتصارعة كي يجدوا حلا لهذا البلد الجريح.
أما من عاقل في هذا المشهد المجنون؟