تأملات في الأدب النسوي العراقي المغترب خارج الوطن .. داخل الحلم.. فاتن الجابري

الادب العراقي المهاجر وقواسمه المشتركة اللوعة والحنين والشوق للوطن نمط ادبي برز كظاهرة لافتة للاهتمام منذ العام1980بعد أن تعرض كثير من الادباء واصحاب الفكر والمثقفين الى مضايقات وملاحقات من قبل النظام الدكتاتوري ما دفع عددا كبيرا منهم الى ترك العراق والهجرة الى دول اوروبية وعربية مختلفة، اعمدة في الثقافة والادب العراقي على رأسهم الشاعر محمد مهدي الجواهري ، وعبد الوهاب البياتي ، مظفر النواب ، نازك الملائكة ، لميعة عباس عمارة الممثلة زينب وغيرهم توفي بعضهم في مدن منافيهم ودفنوا بعيدا عن وطنهم .
ففي ظل الانظمة الدكتاتورية الشمولية تمارس سياسة تكميم الافواه وتضرب بيد من حديد كل من يعارض افكارها وينتقد سياساتها القمعية التي تضيق بشدة على اصحاب الاقلام ، الحرة.

أرض الفلاسفة

حدث هذا في المانيا في عهد الحكم النازي لهتلر الذي لم يسلم الادباء والمفكرون منه ، اذ ضيق عليهم وطاردهم لاسباب عدة أما لاصولهم اليهودية تارة واخرى لانهم شرعوا أقلامهم لانتقاد تلك الفترة الحالكة من حكم دكتاتور، تلذذ بالتعذيب والايذاء في المانيا التي تعرف بأرض الأدباء والفلاسفة ،هناك كثير من الأدباء الذين لاتزال كلماتهم تلامس الروح والضمير الانساني ، اسماء ادبية لامعة تعد لدى الشعب الالماني قدوة مثل ،فريدريش شيلير. يوهان فولفغانغ فون غوته هاينرش مان وغونتير غراس.
حقبة الحكم النازي اجبرت العديد منهم على مغادرة المانيا والهجرة الى أميركا أو دول أوروبية فكونوا مجموعات ادبية تبنت (أدب الدياسبورا )وهي كلمة يونانية قديمة تعني الشتات .. السبي .. الانتشار في الارض والمنافي و الدياسبورا أو أدب «المجموعات التي تعيش خارج أوطانها الأم حسب ما جاء في كتاب خطاب الذات في الادب العربي لمحمد معتصم.
لقد فسر عدد من الكتاب ظاهرة الاغتراب في ادب المهاجر ، و منهم الكاتب دافيد غريبر الذي يؤكد أن مفهوم الاغتراب لا يُعدُ من المفاهيم المألوفة جداً وذلك لمحاولاته الرامية الى الخوض في شعور واسع الانتشار- غاية في الذاتية- شعور يصعب تعريفه ممتزجاً بمحاولة متزامنة لتأويل طبيعة المجتمع الذي يكمن وراء نشوئه.
يمكننا القول بان ذلك ليس تعميماً مطلقاً، فحالة شعور الفرد بعدم الانتماء الى مكان تواجده، او إحساسه الداخلي بالعزلة عن المحيط الذي يقع فيه او حتى عن الناس الذين يحيطون به- هي من حالات معالجة الذات التي تكرر التعامل معها عبر حقب التاريخ الإنساني وبجميع دياناته (البوذية، معظم مسارات الديانة المسيحية والمندائية، الحركات الصوفية في الإسلام)، حيث عُد ذلك النزوح بمثابة انعكاس لنظرة معمقة نحو حقيقة عوالم الذات الإنسانية، وأعطى الناسكون والرهبان والتأمليون فكرة الاغتراب بُعداً مهماً وقيمة عالية كونه يؤدي لحالة أسمى بحسب رؤيتهم.
من جهتها اعتبرت الكالفينية ان الشعور بعزلة الذات والفراغ هو بمثابة إشارة لسقوط القدسية عن الحالة الإنسانية التي مر عبرها البشر، وهذا الاعتبار يقترب كثيراً من التصور الحديث لهذا المفهوم- بالرغم من تشكله المتأخر في القرن التاسع عشر حينما ارتبط بحقيقة العيش في المدن الكبرى ذات الطابع الصناعي الشمولي التي خلقت الاغتراب من خلال عصفها بطبيعة عيش سكانها فخلفت واقعاً كان يشار له بغير ذلك عندما رأت الأجيال في السابق بان الاغتراب ما هو إلا شعور مقتصر على ضحايا الكآبة والمفكرين والفنانين والشباب وبرغم ذلك الاختلاف بين الأجيال، نجد إنها قد تشابهت في النظرة لتبعات الاغتراب كالحزن والقلق وفقدان الأمل والانتحار .

ادب المهجر

أما في العالم العربي فان ظاهرة ادب المهجر كانت على ايدي ادباء المهجر اللبناني الذين غادروا لبنان الى اميركا والبرازيل وغيرها من الدول ، واشهرهم ايليا ابو ماضي ، جبران خليل جبران ، ميخائيل نعيمة واخرون اسسوا لادب المهجر وتركوا بصمتهم البارزة عليه .
محاولة الولوج الى عوالم الشتات في أعمال شاعرات وروائيات وفنانات المهجر اذ تكتنز القصائد لدى شاعرات المهجر بأصوات متعددة تتحاور وتتصارع لتفصح عن مكنوناتها النفسية والحسية متأملة واقعها الانساني والحياتي الذي فرضته الغربة وقفات انسانية وبوح حميم لذات المرأة المبدعة خارج وطنها العراق ، قاسم مشترك بينهن جميعا حب العراق والتبتل والتغزل بكل مافيه من جمال وروعة ، يستصرخن الذكريات ، الازقة جدران البيوت وملاعب الصبا .

سأعود يوما

الروائية سالمة صالح من محراب غربتها في المانيا ، تناجي ذكرياتها في مدينتها الموصل التي غادرتها منذ العام 1978
أعرف أنني سأعود يوما، أبحث عن زهورالنرجس تحت ساعة البريد، عن طريق ينحدرعبر حقول القمح إلى محطة القطار، عن أعمدة المرمر وتيجانها تـرتمي في ساحة دار كانت ذات يوم دارنا، وأعرف أنني لن أجد شيئا من ذلك
هكذا تلخص مشاعر الغربة في كتابها زهرة الانبياء .
مناجاة أخرى لاتقل وجعا تبثها الرسامة والشاعرة المغتربة في المانيا رؤيا رؤوف :
من أوتار القلب المقطعة.. ومن خزائن الذكريات.. أعزف أغنية لا تنتهي.. وحب لا ينتهي.. وقلب شكله خارطة العراق.. يا أوسع قلب في الدنيا و..و.. وأسأل سؤالاً.. أرسم سؤالاً.. متى نعود إلى العراق؟
بهذه الكلمات تعبرعن حبها وشوقها للوطن الذي تعيش قسوة الغربة بعيدا عنه في مدينة لايبزك الالمانية.

اقامة طويلة

أما القاصة صبيحة شبر في حديثها عن غربتها الطويلة من الكويت الى المغرب ... ظننت أن اقامتي في بلاد الغربة سوف تكون قصيرة ، واذا بها تطول ، فالغربة قاسية ، حين يجد الانسان نفسه بعيدا عن الأهل والأحبة وعن الأصدقاء ، فيكتم الامه وجراحات نفسه ولا يفصح عنها لئلا يؤثر على من يشاركه الغربة ، الشوق الى الوطن كان يضني ولم استطع التعبير عن ألم الغربة صراحة فكتبت ونشرت باسم مستعار .

شاعرات من الجنوب

الشاعرة بلقيس حميد حسن رغم سنوات اغترابها الطويلة واخر محطاتها في هولندا ،ترنو الى مدينتها سوق الشيوخ ونهرها الذي لايفارق خيالها :
أودعُ قلبا في الفرات ولا أدري
بأن الفرات اليوم ودعهُ الدهرُ
وأجمع بعضي من همومي وإنني
إذا حاربت أيامي يكون ليَ العذرُ
فلا خبرٌ يأتي ولا الريحُ تـُرتجى
وقيديَ صمت ٌ من دمائيَ يقطرُ
أراهن والبلوى خسارة راهن
رمى سهمه بالنار والنار تسعرُ
الشاعرة وفاء عبد الرزاق المغتربة في بريطانيا منذ اربعين عاما ، تستل من محراب الذكريات في مدينتها البصرة معينها الذي لاينضب :
اغترابي يعيش معي، غريبة عن الوطن الذي يعيش في داخلي ويومياتي منه وإليه، وغريبة في أسئلتي عن سبب ضياعه فيَّ وضياعي فيه.
ذاكرتي عالقة في مدينتي البصرة ، عندما خرج الشعر من جوانح طفلة في التاسعة، جاء على شكل بيت من" الأبوذية" .. اتذكر فرحة أبي وتهنئته لأمي قائلا: افرحي نجيبة ابنتكِ شاعرة.. كما يعلق في روحي ذكريات يوم الكسلة أو فرحة عيد نوروز واحتفالية النهر بالراقصين في الماطورات وطعم الخس المنقوع بالماء ،وفستاني الزهري المقلَّم الذي لم يبرح ذاكرتي .

اغتراب قديم

وعن غربتها الاضطرارية في الولايات المتحدة الاميركية تقول الشاعرة فليحة حسن :ــ انا مازلت بخير غير ان ماحدث هو تغيير اضطرتني له ظروف فوق طاقة تحملي ، والاغتراب بالنسبة لي شعور اعيشه منذ زمن بعيد، فقد كنت ارزح تحت هذا الشعور منذ كنت اتقاسم اللعب مع اترابي وتنامى حتى صار يصرح به اليَّ كلّ حين، الان لااجد في انتقالي من العراق الى حيث انا الان غربة مختلفة عما كنت اعيشه ، غير ان روحي الشاعرة لايحدها مكان وطموحاتي لاتقف عند حد ، فالقصيدة المرتقبة لم تأتِ بعد!
فيما تتصارع آلام الغربة في روح الشاعرة دجلة السماوي مغتربة في الولايات المتحدة الاميركية :...
كل المغتربين زاد بلا وطن
ووطن بلا زاد
ايها الغرباء
القابعون
في الارض التي
لم تلدكم
ونشأتم فيها
وماؤكم رمادي
وارضكم خضراء خاوية..

الناقدة والشاعرة خالدة خليل مغتربة في المانيا ترى أن الغربة تنضج فعل الكتابة وتعمق طبقات المضمون فالانسان المغترب يعيش ضيقا مضاعفا ينهش وجوده المادي والروحي معا .. فإذا كان هذا المغترب كاتبا وشاعرا فلا يكون الأمر مستغربا عنده لأن الألم المضاعف والضيق المضاعف ينزل إلى أعماق جذور الانتماء لديه ، شخصيا يتوغل هذا الحفر إلى جذوري البيئية في العراق وإلى جذوري الضاربة في كل ما مر به العراق من مآس ليس لها مثيل في التاريخ البشري برمته...
الشاعرة نجاة عبدالله التي ذاقت أوجاع الغربة في اكثر من منفى من نيوزلندا الى مصر نراها تكثف حنينها للوطن في صور شعرية عبرت عن قلقها على وطنها كما جاء في قصائد مهجرة :

أنظرْ يا حبيبي :
المطرُ يفترسُ الشباك
ورأسكَ مثقلٌ بأولِّ الأنباءِ ،
الشاعرة ورود الموسوي المغتربة في لندن صافحت وجه الغربة بعمر لا يتجاوز العشر سنوات هذا يعني أن كل ما يأتي من معرفة وانفتاح مدارك واتساع رؤى هو من مدرسة السيدة الغربة وهذا المعنى كامل وموجود في كلا الديوانين وربما نص (غرباء) من المجموعة الشعرية الثانية – هل أتى – تجيب عن هذا السؤال بشكل أدق ومنها:
غريبٌ وأمي غربةٌ شوهاءُ
مازلتُ صغيرها اللاهي
تظلُّ تُرضعني كل يومٍ لأصغر في حجرها أكثر
الشاعرة وفاء الربيعي ، تواصل حلمها في العودة الى العراق ، تروض غربتها الطويلة في المانيا والتي امتدت لاكثر من ثلاثين عاما تروضها بالشعر :

يا أهلي
اريد أن أعود إليكم

فيّ ريح لها أن تحمل

طيورا بألوان زاهية

تعيد روعة الأنهار،

سأعبر مدنا فيها موتى

لا يستقبلون الصبح بل ينامون الليالي
فاطمة الفلاحي شاعرة وناشطة ...
وصلت المنافي من الجزائر الى فرنسا وفي قلبي العراق وغصة، ولغتي، وجسدي المثقل بهموم وجراح الوطن والأهل، وكم من البياض قابل للاكتتاب .. جاهدت أن أتوطن لكن كل شيء فيّ يرفض، فكانت الكتابة ملاذي تسامرني تفاصيل الوطن وارهاصات تأخذني بالشعر المنثور، أو سردية أو حكاية تحتاج لاهتمامي .

أعياني قَدُ قميصك ياوطني،
ووجعك يربض في بواطن قلبي،
وبناصية الروح عالق غيابك
والخؤون في زمن احتلالك
يعيث بدمك
الشاعرة رائدة جرجيس المغتربة في الولايات المتحدة الاميركية تمازج وتماهي كلماتها بين بعثرة روحها المشبوبة بالشوق وبين ارتباك الوطن تقول :
أيها الوطن المغادر عتمة الضوء
إلى غبشي
شرنقني كلفافة تبغ
في أصابعك المرتجفة
في ممالك الحرير
فانا نصف قرن من النساء
مبعثرة كأنفاسك المرتبكة

اما الشاعرة والروائية نضال القاضي مهاجرة في البرازيل ، تستحضر في ذاكرتها صور حياتها في مدينتها وبيتها القديم وذكريات الطفولة رغم الغربة :
لي في منزلي

قطّة ٌمدللة ٌ

مثل المنافي الحديثة
لي..

ولي
..
البلاد ُالتي خزَقتْ جسدي

بما يكفي

لرتْقِ قميصِ رجلٍ حقيقي
التشكيلية سوسن العقابي رغم جليد منفاها في النرويج لكنها حولت رموز العراق الى لوحات موضوعها الاول حضارة العراق وارثه الانساني القدم : الاشتياق والحنين الى تراب الرافدين ، الى دجلة والفرات الى سومر وبابل واشور ، الى رمز الحضارة وملتقى الثقافة والفنون ، فكانت فرشاتها تعتصر حبا بهذا الحنين ، وتمطر الوانا من تاريخ هذا البلد العتيد الذي اثقلته الحروب ودمرته السياسات الخاطئة ، لكنه رغم ذلك لا يزال ينبض بالحب والحياة .
في سلسلة قصائدها ومجاميعها الشعرية الى سيدي البعيد في مدينة اغترابها عمان ، تصور الشاعرة هناء القاضي ،بقصائدها الاشواق التي تضطرم داخلها الى الوطن وربي كناية سيدي للوطن الذي بعد عنها وبعدت عنه وتركت فيه من تحب ...

كم الشتاء قارسٌ ..هنا يا بعيدي
ثلجٌ..ثلجٌ..على مدّ النظر

الريحُ تصفرُ..عند شباكي
أنا والليل ووجهك
وأوراقي...
وشوقٌ يهوى احتراقي
وزادٌ..
من الذكريات وصور
......
وفي مجموعتها الكتمان أنثى والبوح ذكر تصرخ الشاعرة زينب الخفاجي في وجه غربتها في القاهرة و التي عاشتها مرغمة :

قواي ...
وحينما أقولُ عسايَ أحملُ الرعشةَ قطافاً ...

اقصد بالفعل تحريرَ يديَّ منْ سطوةِ قماط أثول ...

وضمناً رَبما أعني صرختي العابرةْ ....

سوزان سامي جميل تعيش منذ سنوات طويلة في كندا لكن قصائدها وقصصها ، تدور داخل قضايا وهموم الوطن ،تبث الشكوى وترثي الاشياء الجميلة ففي قصيدتها تشارك الحزن والالم طفلا عراقيا فقد والدته :
غربانُ الفزعِ تنعقُ في غربتي
تعشِّشُ في خيالاتي
ياجياعَ الأرض
ياعراةَ الضمير
أغيثوا سنينيَ الحيرى
فما عادتْ مرافئها تناديني
أن للمكان تأثيرا واضحا على أبداع الكتاب والادباء وعلى أعمال الفنانين .
لذا تقفز مفردات البعد والشوق والحنين الى الاماكن القديمة في كل مايكتبه الادباء المغتربون بدون تخطيط مسبق ويصبح جزءا من الروح والعقل الباطن ، وهذا لايدفعنا الى تأييد وتجنيس الادب الى أدب نسوي وذكوري مثلا أو أدباء الخارج والداخل لان الادب لايمكن أن ينفرط عقده بالتوصيفات والتقسيمات مهما حاولوا دعاة هذا المنهج .
لكن حسبنا القول أن المكان والبعد عن الوطن ينغرسان عميقا في الوجدان ويظهران جليا في القصائد والروايات واللوحات على هيئة مفردات تعبر عن هذا الاغتراب بلوعة والحنين الى الماضي المقترن بالطفولة والشباب في الوطن .