العراقي الذي تطارده السياسة

يتنفس العراقيون السياسة ليلا ونهارا. وكما لا تقدر السمكة على العيش بدون ماء فهم كذلك لا طاقة لهم بمجلس لا يمر حديثه بتضاريس السياسة ومنحدراتها. وعبر الأحاديث اليومية في البيوت والمدارس والشوارع والمقاهي وباصات النقل العام، وفي التلفزيون والراديو والصحف والمجلات، يفتتح العراقيون الصباح على سياسة قبل فنجان الشاي، وينام الكثيرون منهم بعد نقاش سياسي يطيح بحفنة سنين من صداقة ومعاشرة. وفي الأحلام أيضاً، تأتيهم السياسة بهيئة كوابيس ثقيلة، وأشباح تطاردهم وتقض مضاجعهم.
لا غرابة إذن أن تشيع في السبعينيات بين أوساط الطلبة العرب والعراقيين المغتربين طرفة كان العراقيون بالأخص يتداولونها بشكل لا يخلو من الاعتداد والزهو، مفادها إنك إذا رأيت بعد منتصف الليل غرفة مضاءة فهي لواحد من ثلاثة: إما سوري منشغل بعدّ النقود، أو فيتنامي لا يزال يتابع الدرس، أو مجموعة عراقيين يتناقشون بالسياسة!
هذه الطرفة بمجملها وبعيداً عن الدافع الذي يقف وراء نسجها لا تخلو من حيث المبدأ من صلة تربطها بالواقع. ولو أتيح لنا متابعة مصير ناشطي غرف ما بعد منتصف الليل تلك لتبين لنا أن الفيتنامي قد عاد الى بلاده منهياً دراسته بوقتها المحدد، والسوري قد وجد طريقه بشكل ما للعمل أو العودة، أما العراقي فكان كمن حلت عليه لعنة الأرض والسماء معاً، وظل تائهاً لا يستطيع البقاء لأن الدولة المضيفة لا تمنحه حق تمديد الإقامة، ولا يستطيع العودة لأن السياسة تمنعه، وسيكون يوم دخوله مطار بلده آخر يوم في حياته ربما!
والآن فـــــي عصر الإتصالات المتطورة لا يكاد المرء يعثر من بين الآف الصفحات على شبكة الإنترنت، والصحف والمجلات الا على النادر من الصفحات المتخصصة بمعالجة المشكلات العويصة التي تواجه المجتمع العراقي، وهي مشكلات أساسية تخص الانفجار السكاني وعودة التراكيب والقيم العشائرية والطائفية، والتصحر والأمية والعنف، لكن الأرض تكاد تضيق بصفحات السياسة، وصحف السياسة، ومجلات السياسة، وكتّاب السياسة ممن يسمون بالكتاب والمحللين السياسيين، أما حديث السياسة في التلفزيون فهو دائم الحضور عبر الأخبار والمقابلات والندوات بل حتى المسلسلات الدرامية التي أصابتها لوثة السياسة.

مجتمع سياسي
مع بداية تشكيل الدولة العراقية الحديثة، كانت صورة المجتمع قد تبلورت كمجتمع سياسي. ويرد على لسان الشيخ "علي الشرقي" عن السياسة في العراق: " لا نرى في الأمة الا سياسياً وساسة ، حتى كأن الجمهور العراقي كله طائفة سياسية، فالسياسة في الجوامع ، والمخادع، والمقاهي ، والأسواق ، والطرقات، والمدارس، والثكنات العسكرية ".
ويورد الدكتور علي الوردي حول ولع العراقيين بالسياسة رأي الجاحظ بأن: "أهل العراق أهل نظر وفطنة ثاقبة ومع النظر والفطنة يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء".
ويجد ( عباس العزاوي) ان "المثقف يتصل بالسياسة ولا يتجرد من فكرة موافقة أو معارضة محبذة أو مستاءة او مقارعة ومناوئة".
ويعلل د. علي الوردي حدة الوعي السياسي بوصفه "وليد الانقلابات والانتفاضات والوثبات، فكل حدث بمثابة مدرسة شعبية تحرك الأذهان نحو السياسة وتزيد عدد المولعين بها، فالأحداث السياسية مجال للتنفيس فيستطيع الفرد بها أن يشبع رغبته في التذمر أو يضع اللوم في فشله".
لكن السياسة أضحت الكابوس الجماعي اليومي لشعب يتحسر على ماضيه، فكم نفع ولع العراقيين بالسياسة والتطرف في الولاءات وكم ساهم في تطورهم؟
وما جدوى موهبة شعب "يقرأ الممحي" ويبرع في السياسة والتنظيم والكفاح والتضحية من أجل الشعارات ويقضي حاضره متحسراً على ماضيه؟
ان المشكلة التي تتكرر في العراق هي ان مهمة السياسة قد تحولت الى اثارة الزوابع أمام المجتمع بدلاً من إزالة الضباب من أمام ناظريه، فكان بسطاء الناس أقرب للحكمة من قادة الأحزاب السياسية.
وتحول ولع العراقيين بالسياسة مع السنين الى صنعة لإدارة الخصام وإدامته لا كوسيلة لإشاعة السلم الاجتماعي وتسيير أمور المجتمع وفقاً لعقد تعايشي واضح، كما تحول هذا الولع – في مفاصل تاريخية معينة – الى نوع من العصاب الجماعي الذي تختفي في أتون وقائعه المدوية حسابات الربح والخسارة المحسوبة وفقاً للمنطق فتخرج أطرافه المتحاربة من معاركها دائماً منتصرة جميعاً، وكل طرف يتباهى بما قتل من الطرف الآخر.

معضلة السلطة المستبدة
لربما أمكن إيجاد بعض العذر لنا بالعودة الى الحقيقة القائلة أن السلطة في العراق بطبيعتها النخبوية، الاستبدادية ، الاقصائية، الاستحواذية كانت على الدوام تدفع الفرد دفعاً لمعارضتها مثلما تجذب غيره بالإغراء لموالاتها. وهو كلام فيه من المنطق الشيء الكثير لكنه ليس المنطق كله.
وإذا ما أردنا الآن تكبير الصورة بقصد تكبير تفاصيلها، فاننا نعطي السياسة تعريفاً آخر هو "الموقف مـــن العالم والدنيــــا "، وعندها لابد من الإقرار أن الفرد الذي ورث من المؤسسة التعليمية والعائلية في محيطه الاجتماعي، ميله ونزوعه لما يسمى بالعدل والإنصاف، ضمن المدى الغامض ، في المنطقة الرمادية التي حددتها الأطر في دروس التربية الوطنية مثل "المواطن الصالح المطيع للأنظمة والقوانين"
وضمن حدود الأعراف العائلية والدينية التي توصي بالعطف على الصغير ومساعدة الفقير والمحتاج، كان عليه، فيما بعد، أن يبحث في عتمة الحياة المعاشة عن آثار لهذه التعاليم والقيم والحدود الفكرية والأخلاقية التي تعلمها، وإن لم يجدها سهل عليه ولوج درب السياسة، فالمرء في بلداننا يقرأ ويسمع في صباه المبكر عن المثل العليا والعدل والإنصاف والتعامل بالحسنى ولكنه يتفاجأ حين تكبر مداركه بواقع مغاير تماماً حيث القهر والتمييز المبني على أسس طبقية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية.
فكان موقف الناس من السلطة بشكل عام انعكاساً لموقفها منهم، وكان هذا الامر هو المحرك الرئيس الذي يقود عملية التصادم معها.
كان من الصعب تصور قيام ثورة 14 تموز والتعاطف الشعبي الكبير الذي قوبلت به، لو لم تكن السلطة الملكية تسيء التصرف بمصير البلاد بتخويل بريطانيا تقرير ذلك المصير، والسيطرة على موارد البلاد وإنفاقها بكيفية تفتقر الى العدالة، فلو لم تؤد السياسة الإقطاعية في الجنوب واستهتار الإقطاعيين والملاكين الى تمركز الفيض السكاني المحروم من كل شيء حول بغداد ولو خففت السلطة الملكية من تبعيتها لبريطانيا واهتمت بالتركيز على تصنيع البلاد وتطويرها بمساعدة حليفها البريطاني وتخفيض الفرق بمستوى معيشة الطبقات الاجتماعية وتفهم التعددية القومية والمذهبية للمجتمع العراقي ولو كان لها موقف وطني وإنساني مستقل من مأساة فلسطين لما وجد الضباط الأحرار مسوغاً للقيام بحركة سوف لن تجد لها شارعاً يهتف بشعاراتها.
كانت السلطات في العراق على الدوام تكذب ليلا ونهارا فتدفع الناس لاستقصاء الحقيقة من "راديو لندن" فتضع العقل العراقي تحت تصرف الإعلام الغربي لإعادة تشكيله.
كانت السلطة تحيط نفسها بأسوار وأسلاك شائكة فلا تمد أي جسر للتواصل مع مواطنيها فتفسح المجال لخلق الشائعات وتداولها وانتشارها من قبل مواطن لا يتمتع بحقوق المواطنة الأساسية ومن بينها حق التعبير.
كانت السلطة تفرض على الإنسان بيع نفسه لها لقاء اتقاء شرها أو ترغبه بموالاتها للحصول على قدر من الاستقرار الحياتي، وكان على المرء عندها أن يقترب منها، يكتسب ملامحها على مراحل ومواقع ، ويدافع عنها بأسلحة، وبضراوات مختلفة حسب تركيب شخصيته وعمق التداخل بين المصلحتين، مصلحته ومصلحة السلطة، أو يعاديها أيضاً عبر مراحل ومن خلال أشكال مختلفة وقد يندمج معارضها بها لاحقاً متماهياً بشكل كلي غاية في الخطورة .
وهو ما لمسناه في فترة الثمانينيات من القرن الماضي في حالة معارضين سابقين للسلطة تحولوا الى منظرين شرسين لمنهجها القمعي الاستبدادي.
ان السلطات السابقة الشـــرسة والخــائفة وغــير المستقرة في العراق، وتداولها الدموي، وتعاملها المتعالي المتغطرس مع العامة هي التي أسّست لمعارضة متنامية تقابلها بالعنف، وشرع الأبواب للسياسة لكي تنهب أعمار أجيال من العراقيين.
وهناك قاعدة قد نهتدي لأهميتهـــا ذات يــــوم وهي: كلما زاد بريق السلطة احتـد الهياج والتحسس الذي تسببه في عيــــون مـــن يقابلها.