سيوف((داعش)) وحنجرة المغنّي

من بين كل مدن بلدي العراق تتبوّأ الموصل منزلة متميّزة  في قلبي ووجداني ، فلكلّ شيء فيها نكهة خاصة ، وهذه المدينة التي تعدّ ثالث أهم مدن العراق ، لها بصمتها ، لذا أحببتها منذ عرفت الطريق إليها  ، زائرا ،ومقيما ، لظروف شتّى ، وكوّنت صداقات عميقة ،بعضها مايزال مستمرّا، مع أدبائها، وفنادقها، ومطاعمها ،وشوارعها ، ومقاهيها .

مازلت أتذكر زيارتي الأولى لها منتصف الثمانينيات ، حين وصلتها فجرا ، على متن القطار المنطلق من بغداد قاطعا مسافة تبلغ400كم ،خلال ليلة كاملة، في الدرجة السياحية التي معظم شاغلي مقاعدها من الجنود الملتحقين بوجداتهم العسكرية وطلاب "جامعة الموصل " واخواننا المصريين الذين كانوا يعملون في العراق خلال سنوات الحرب العراقيّة-الإيرانيّة ، والسياح ،كنت بصحبة اثنين من الأصدقاء أحدهما كردي ،لقي حتفه ،لاحقا على الحدود العراقية التركية ،والثاني أفلت من الموت وبلغ باريس، بعد رحلة دامت ثلاث سنوات !! ، كنا حينها ثلاثيا جميلا، جمعتنا ظروف صعبة  ، وكنا نتبادل الكتب ،والأوجاع ،والأحلام ، وذات يوم برقت في ذهن صديقنا "عبدالعزيز النجدي " فكرة أن نمضي اجازة العيد في الموصل التي سبق له أن درس في جامعتها ، فحجز لنا في القطار ، وماكان أمامنا سوى حمل ثلاث حقائب صغيرة ،والاتجاه للمحطة، وحين وصلنا كانت الموصل نائمة ، لكن مساجدها الكثيرة وجدناها يقظة ، تستقبل المصلين ، وبعد وجبة افطار "لحم بعجين " ،وهي وجبة شعبيّة تشتهر بها المدينة، وتكون على هيئة أقراص خبر صغيرة مطعّمة باللحم المفروم  ،شربنا شايا ساخنا بدّد برودة صباح المدينة البارد ،تجولنا في الشوارع بحثا عن فندق مناسب، وحين وجدناه في "باب الطوب" أودعنا حقائبنا به ثم أمضينا جولة في المدينة ، التي يطلق عليها "أم ّالربيعين"،لاعتدال أجوائها خلال موسمي الربيع ،والخريف ، ويرى زائرها الخضرة تمتدّ لتكتسي الحقول بساطا أخضر خلال هذين الموسمين  ، لذا ذهبنا إلى منطقة الغابات ،فأمضينا نهارا هناك ، وحين عدنا لمركز المدينة تمشينا في أسواقها التي تعرض المكسرات التي تعدّ الأجود وبخاصة الجوز واللوز ، وزرنا أضرحة الأنبياء المدفونين فيها: يونس ، شيت ، وجرجيس،ودانيال، عليهم السلام ،والتقطنا الصور التذكاريّة عند منارة الحدباء التي يعود إنشاؤها إلى ثمانية قرون ، وتعد من أشهر المعالِم الإسلامية الشاخصة اليوم وكان لابدّ لنا زيارة دير مار متي الواقع على جبل الألفاف ، ويعود تاريخه إلى أواخر القرن الرابع الميلادي ، فالمدينة، تعد ّمن المراكز المهمّة لتجمع الكلدان السريان والآشوريين ، وكذلك بعض الأرمن إلى جانب الوجود اليهودي الذي يعود  إلى فترة سبيهم من قبل الآشوريين في القرن السابع قبل الميلاد، فكانت ومازالت مثالا للتعدد الديني ،والعرقي ،والأغنية الموصليّة المشهورة " يردلي يردلي "، التي غنّاها كثيرون أبرزهم المطرب سعدون جابر، تؤكّد هذا التنوّع ، والتعايش بين المسلمين ،والمسيحيين وبقية الأديان كما تقول كلماتها :

"يردلي يردلي سمرة قتلتيني

خافي من رب السما وحدي لاتخليني

أبوك يا اسمر حلو ماجا على ديني

انت على دينكِ وأنا على ديني

صومي خمسينكِ وأصوم ثلاثيني"

و"يردلي" كلمة مركّبة من لفظين ، الأول تركي هو "يرد "كلمة تركية ، وتعني مساعدة أضيف لها باللهجة الموصليّة ،لفظ عربي هو  ( لي ) , فصارت ( يردلي) , أي ساعديني، والأغنية من التراث الموسيقي الموصلي ، فقد عرفت  المدينة ،تاريخيا، بكونها أحد أهم المراكز الموسيقيّة  في الدولة الأموية والعباسية ، ففيها نشأ إسحاق الموصلي وزرياب ، ولاحقا في القرن العشرين الملا عثمان الموصلي ، وعازفا العود الشهيران جميل ،ومنير بشير ،فهل سيسمح "الداعشيّون" الذين سيطروا على المدينة ، لنهر الموسيقى أن يواصل تدفّقه ؟ وهل ستتمكّن سيوفهم المدهونة بالظلام ، من قطع حنجرة المغنّي الذي يردّد:

" يردلي يردلي سمرة قتلتيني

أبوك يا اسمر حلو ماجا على ديني

انت على دينكِ وأنا على ديني" ؟

من حيث إنّهم حين سيطروا على الموصل بدأوا عهدهم بتفجير كنيسة تحت الانشاء !!

 لكنّ عزاءنا ،إنّ هذا الأمر ليس جديدا على هذه المدينة الصابرة، فقد سبق لها أن مرّت بحروب ،واضطرابات ،وحصارات ،عبر تاريخها ، ومنذ 2003 م شهدت تدهورا أمنيا ، وأبرز ذلك عندما تمكنت مجموعات إسلامية أصولية تنسب إلى تنظيم القاعدة أواخر 2004 من فرض سيطرتها على أجزاء من المدينة ما دفع الحكومة العراقية إلى إرسال جيش ،فدارت معارك شرسة انتهت بطرد المسلحين ، واليوم يتكرّر السيناريو ، لكننا واثقون من أنّ الموصل ستتجاوز أزمتها ، وتنهض من جديد لتظلّ مكبّرات الصوت في مقاهيها ،ومحلأت التسجيل تردّد :

"يردلي يردلي

شرباتكم بارده وسطوحكم عالي


والله قتلني العطش بالله ارحموا حالي"