لأسباب عديدة معروفة ... بعضها مرتبط بطبيعة الثقافة الدينية والسياسية ... وبعضها مرتبط بخزين المرارات والهواجس و الذكريات... وكذلك انفتاح الوضع العراقي على التدخلات الإقليمية وتأثيراتها على كل الأطراف العراقية ... يمكن الجزم بأن زلزال التقسيم القادم في العراق لا يمكن إلا أن يكون كارثيا... ممهورا بالدم..!! لن يجلس العراقيون إلى طاولة حوار متحضرة لينجزوا (التقسيم) فيما بينهم ويقول أحدهم للآخر بأريحية ويسر .. هذه لي وهذه لك.. كما فعل التشيك والسلوفاك .. ولن يقلد العراقيون حتى أهل شمال وجنوب السودان عندما حصروا خلافهم بمنطقة (أبيي) ففي بلادنا ستكون هناك مائة أبيي وأبيي ونظرة واحدة إلى الخارطة الاجتماعية – السياسية عندنا تثبت صحة ما نقول. في يوغسلافيا السابقة كان زعيمها الراحل (جوزيف تيتو) يكرر بأن لا خوف على وحدة بلاده، لكن تيتو رحل عن الدنيا وبعده تجزأت يوغسلافيا إلى سبع أو ثمان دول وكان مسار التقسيم .. دمويا ... كارثيا ... ولم يشفع الحماس الوطني من السقوط في الهاوية، ولولا التدخل الدولي المباشر لما توقف الصراع هناك، مثل هذا التدخل قد لا نرى مثله في العراق إذا شبت النيران ... فالولايات المتحدة قد غادرت العراق ونفضت يدها منه ... ولتفتح أبواب العراق للقوى الإقليمية لتصفي حساباتها على الأرض العراقية ... ها هي (الفوضى الخلاقة) و (الغموض البناء) تطرح ثمارها المسمومة في بلادنا وتنزّ دماً وخراباً ومصيراً مجهولا ... في تسعينات القرن المنصرم شاع في مصر مصطلح (جمهورية أمبابة) للتّهكم على حالة الفلتان التي كان يعيشها أحد أحياء القاهرة الفقيرة وسيطرة الجماعات الدينية المتشددة على ذلك الحي... وحالة العراق توحي بأننا سنشهد العديد من (جمهوريات أمبابة) إذا انزلقت الأمور لحالة الفوضى والتقسيم .. ستكون لدينا على سبيل المثال لا الحصر.. جمهورية طوزخورماتوا ... وجمهورية بلد والدجيل المتحدة ... وجمهورية الخالص .. وجمهورية سهل نينوى المتصالحة .. ومدينة الكاظمية المقدسة المتمتعة بالحكم الذاتي (مع حق الوصول للأماكن المقدسة) ... ومثلها (جمهورية الأعظمية ) وفيها حي الكسرة والسفينة (ذات الوضع الخاص و الحساس..!!؟؟) ... ولم نتحدث عن كركوك .. ولا عن ديالى .. أو شمال بابل.. ولا عن مثل هذه (الجمهوريات الكبرى) فهناك سيكون المخاض أكثر إيلاما.. وهناك تسكب العبرات .. والدماء أيضا .. حيث سينصب الشيطان رايته. للرئيس الروسي فلاديمير بوتين قول معروف.. (من لا يحزن على الاتحاد السوفياتي السابق لا قلب له.. ومن يحزن عليه لا عقل له..).. لكن الحال في العراق مختلف تماما ... فمن لا يحزن على العراق الموحد .. لا عقل له ولا قلب ... ولا ضمير... لأنه يضحي بمستقبل وطن وأمة.. من أجل (سواد عيون مشاريع إقليمية) ولحسابها ليس إلا... ومخطىء من يظن أن الحجم الأكبر من المشكلة هو بين العراقيين ... نعم .. هناك خلاف فعلي على السلطة والثروة لا يمكن إنكاره أو التهوين من شأنه .. خلاف على معادلة الحكم ... ولكن لو خلا الأمر من (الاختراق الخارجي) لنجح العراقيون في إرساء معادلة صالحة للحكم يتوجهون بها لصناعة المستقبل. في مخاض عسير كهذا لا يصعب على المرء أن يرسم (السيناريوهات الكارثية) التي سيعيشها العراق ويكتوي بنارها... فمع كل يوم يمر على هذا الصراع المفترض، سيزداد التصاق القوى المحلية المتصارعة بالداعمين الإقليميين ويكتشفوا أن القرار بدأ يخرج من أيديهم وأنهم صاروا أكثر ارتهانا لمن يدعم. القوى الإقليمية المنخرطة في الصراع والتي يتقاتل العراقيون بـ (الإنابة) عنها سيكونوا هم (أسياد اللعبة) كما يقال... وسوف يصبح الحديث عن (القرار الوطني المستقل) ضربا من الوهم ... كل طرف سيحاول أن يستثمر كل ما يره من أوراق لكسب الصراع والضغط على الطرف الآخر .... ولذلك ستكون حقول النفط ومكامنه .. وإمدادات المياه وسدودها .. ومفاصل الطرق وتقاطعاتها .. مواقع محتملة للصراع والتنافس... مع كل ما يحمله ذلك من عواقب وخيمة ... ونتائج كارثية .. من يرى نفسه أنه (الطرف المحلي) الأضعف سيحاول أن يعوض ذلك بالدعم الخارجي وفي آخر المطاف فأن درجة (إنغماس) القوى الإقليمية وحساباتها هي التي ستقرر لمن تكون اليد العليا في هذه المنطقة أو تلك... وكلما كانت المناطق أكثر تداخلا وتنوعا كلما دفعت (الثمن الأكبر) ... حتى يأتي اليوم الموعود ويقرر فيه (أسياد اللعبة ) خطوط التماس المقبولة أو المرفوضة تماما كما كانت تفعل الدول الاستعمارية الكبرى في القرن المنصرم، رغم أننا بتنا نستغفر الله على اللعنات التي تعودنا أن ننزلها على السيدين سايكس وبيكو اللذان رسما حدود دولنا بعد أن اتضح لدينا أن هذين السيدين كانا (وحدويان) بكل ما تعنيه الكلمة ...!! بدليل أن الدول التي صنعها سايكس وبيكو صارت عرضة للتقسيم والتمزيق على يد ساسة هذه الأيام. مع اشتداد الحاجة للداعمين الإقليميين سينشأ (سباق محموم) .. ( لإغواء) تلك الدول من خلال تقديم التنازلات والمعزيات على حساب المصالح العراقية فهذا الذي يتبرع بالنفط والغاز .. وذاك الذي يتنازل عن المياه.. والثالث يريد أن يجعل سوقه المحلي حكرا لمستوردات تلك الدول .. والكل متنازل عن السيادة والكرامة والمصالح الوطنية العليا لا لشيء إلا ليهزم خصمه وغريمه في هذه الحرب المجنونة.. ربما يكون قرار بدء الصراع قرارا داخليا ... لكن قرار إنهائها لن يكون قرارا داخليا أبدا .. بل سيكون بيد الدول التي تدير الصراع (عن بعد).. هي التي ستقرر متى وكيف تنهي هذا الصراع وقد يكون ذلك بعد عام أو عشرة أعوام طبقا لحساباتها وموازناتها ... مع كل يوم يمر على الصراع ... تختلفي وجوه وتبرز وجوه جديدة أشد تطرفا ودموية .. يغيب عن الساحة القادة السياسيون والمعتدلون ويتسيدها (القادة الميدانيون) من (أمراء الطوائف) و (سماسرة الدم) .. هكذا علمتنا التجارب في أكثر من حرب أهلية وصراع داخلي .. حدث في لبنان .. وفي الصومال .. ويحدث الآن في سوريا .. وبينما يجد الأبرياء من المواطنين أنفسهم محاصرين بنيران الصراع.. يحتموا أكثر فأكثر بمظلة (الطائفة ) أو ( القومية) .. وعلى الجانب الآخر تجد هذه الصراعات (مادة وقودها) في الشباب المتحمس ( المأسورون) بالأيديولوجيات (الموهومون ) بالأساطير والنبؤات و (المسكونون) بالهواجس والوساوس. حتى داخل ما يفترض أنه (معسكر واحد) ستحصل الصراعات والحروب ... إما بسبب التنافس أو بسبب استراتيجية (توزيع الأدوار) أو لأن القوى الإقليمية التي تدير الصراع ترى أن من مصلحتها أن ( لا تضع بيضها في سلة واحدة) ولكي تضمن إنصياع القادة المحليين لها. وخلال أزمنة الصراع النكدة ... سنجد الكثير من فترات التهدئة والتصعيد... والهدنات والمبادرات ومشاريع الحلول.. ومحاولات المصلحين والحكماء .. والعقلاء والمتذاكين .. وسنرى العديد من الطاولات المستديرة والمربعة .. والمنتديات والاجتماعات .. والخلوات واللقاءات ... لكنها جميعا (على الهامش) قياسا لحسابات الأطراف الإقليمية ومصالحها الأساسية .. سنشاهد الكل يتغزل بالعراق ووحدته ... ويلعن الفتنة والقائمين عليها في النهار فيما يمضي ليله بالتخطيط لها والانغماس فيها. لن تنجب هذه الحرب ( دولة الخلافة الراشدة) وبالطبع ولا (دولة الممهدون) .. ولن ينتج عنها (بزوغ فجر كردستان الكبرى ) بل الحصيلة الواقعية الأكثر احتمالا ... هو العراق المدمر .. المهشم ... المحترق .. الذي تفوح منه رائحة الفتنة والدماء والخراب. كررت في مقالات سابقة بأن العراق اليوم أمامه فرصة نادرة قد لا تتكرر وذلك بسبب تزايد عائدات النفط ... فهذه الثروة يمكن لها أن تشكل رافعة للاقتصاد العراقي خلال العشر سنوات القادمة بحيث تعيد تشكيل حقائق الاقتصاد في بلادنا إذا أحسن استخدامها .. وأن بديل ذلك هو السقوط في دوائر الفقر الحلزونية ... غير أن هذه الفرصة ليست مفتوحة من ناحية الزمن بل أن أمدها لن يتجاوز العشر سنوات إلى الخمس عشر سنة القادمة بعدها تصاب حقول النفط بالشيخوخة ويذبل عطائها فإذا ما انقضت هذه السنوات والعراق في حالة صراع داخلي وعدم استقرار فإن هذه الفرصة ستهدر وتتلاشى ... وخلال هذه الفترة سيتزايد عدد السكان وتصل مشكلة نقص المياه إلى مستويات خطيرة. هنالك اليوم من يتحدث عن (توحيد ساحتي الصراع في سوريا والعراق) بحيث تصبح حربا سنية – شيعية على مستوى المنطقة ، مثل هذا التوجه يعني تكبير المأساة ... وتضخيمها .. وفي الواقع فإن نتائج الإعصار السوري وإيحاءاته كانت مشاهدة بوضوح في الساحة العراقية منذ بدء الأحداث هناك. هل أسرفنا في التشاؤم .. ورسمنا صورة (شديدة القتامة) لاحتمالات المستقبل ... ربما .. لكن علينا أن ندرك بأن مبحث (السيناريوهات الخطرة) و (مكامن التهديد) هو أصل في كل دراسة عن المستقبل .. وكل مقاربة لموضوع الاستراتيجية ... هذا في الحالات الاعتيادية والمسبقة .. فكيف يكون الأمر إذا كنا اليوم في خضم الأزمة وليس على حوافها ..؟!، وكأني في ذلك أستلهم موقف ذلك الصحابي الذي قال.. (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني). بعض أبناء العراق وساسته ينطبق عليهم الوصف القرآني ( يخربون بيوتهم بأيديهم ) وأحس في نفسي حاجة ملحة تدعوني لأن أردد في وجه أولئك التساؤل القرآني الآخر أليس منكم رجل رشيد...؟؟ |