نازِحونَ خَمِس نجوم ، ونازحونَ عاديون

مثلَ أي أمرٍ آخر .. فأن أوضاع ( النازحين ) من الموصل وغيرها ، ليستْ مُتشابهة ، فأحوال بعضهم ، تختلف إختلافاً حّاداً عن البعض الآخَر . 
ففئةٌ إستقلتْ سياراتها الفارهة مُتوجِهةً الى أربيل او دهوك ، وحملتْ معها أموالاً طائلة ، تاركةً قصورها ومصالحها غير عابئةٍ بها ، لأنها تتوقع بأنها ستُعّوَض على أية حال ، سواء عادتْ الحكومة المحلية القديمة ، أم إستقَرَ الوضع لداعش والبعث ! . هذه الفئة القليلة .. تقوم بتأجير منازل فخمة أو تُقيم في فنادق راقية في الأقليم ، أو حتى تُسافر الى تركيا او لبنان أو أوروبا حتى يستقر الوضع . هؤلاء في الحقيقة ، يعتبرون ما يحدث ، فُرصة لمزيدٍ من الإستجمام والسياحة وتبديل الجَو ! . هذه القِلّة المُستفيدة في كُل وقتٍ وكُل عَهد ، لاترتبط إرتباطاً قوياً ب " الأرض " ، بل أن مصالحها فوق كُل إعتبار ، ومعظمهم لم تَكُن له مُشكلة ، في دفع " خاوة " أو ضريبة ، للمجاميع الإرهابية في الموصل ، طيلة السنوات الماضية .. ونزوحهم الحالي من الموصل ، ليس بسببِ إختلافات " جوهرية " مع داعش او البعث .. لكنهُ إبتعادٌ عن الفوضى وإحتمالات حدوث قلاقل في الأسابيع القادمة .
الفئةُ أعلاه قليلة .. وهُم الأثرياء القُدامى والجُدُد والمُتنفذين والمُستفيدين من السُلطات .. معظم هؤلاء كانتْ علاقاتهم جيدة مع نظام صّدام ، ومع الحكومة الإتحادية الحاليةِ وفي نفس الوقت ، مع الحكومة المحليةِ أيضاً ، ومُتفاهمين كذلك مع المجاميع الإرهابية ! . أي كانتْ أوضاعهم " ماشية " بصورةٍ سَلِسة .. والمُفارقة ، ان أوضاعهم هُنا ، في الأقليم ، ممتازةٌ أيضاً ! . هؤلاء في الحقيقة ، لايُعانون من مُشكلة " نزوح " ، ويُمكن القَول أنهم نازحون خمس نجوم ! .
المأساة تكمُن في أحوال الفئة الأخرى : أي عشرات الآلاف من العوائل الفقيرة ، المُستَضعَفة ، ومعظمهم لايملك سيارات لكي يهرب بها .. ولا أموال يستعين بها ، ولا أقارب يلتجأ إليهم .. الكثير منهم ، بقى في الموصل ، ليسَ حُباً بداعش والبعث ، ولكن لأنه لايملكُ خَياراً آخَر . أما الذين نزحوا ، فأن أوضاع معظمهم صعبة للغاية . لأنهم كانوا موظفين او مُستخدَمين ، يستلمون رواتب من الحكومة ، وليس عندهم مَوردٌ آخَر يعتاشون منهُ ، وفوق ذلك ان بعضهم مسؤولٌ عن إعالةِ مُعّوَقين او مرضى كِبار السِن .. إلتقيتُ قبل ثلاثة أيام ، بواحدٍ من هؤلاء ، كان على وشك البُكاء ، قال : هربتُ من قصف الهاونات المُكثَف على بيوت محلتنا ، ولا أدري من أين كان القصف .. ورغم ان حكومة الأقليم وّفرتْ لنا ، مشكورةً ،خِيَم وبعض الخدمات .. لكني أحتاج الى أدوية لوالدتي المريضة ، ورعاية مُستمرة لولدي المُعّوَق .. ونقودي القليلة أصلاً على وشك النفاذ ، ويُقال ان " الإدارة الجديدة " سوف تدفع الرواتب رأس الشهر ، لهذا فسوف أرجع اليوم الى الموصل ، وليكُن ما يكُن ! .
عشرات الآلاف من الناس العاديين الأبرياء ، الفقراء البُسطاء .. الذين ليسَ لهم ناقةٌ ولا جَمَل ، سواء حكمَ المالكي الشيعي ، أم النُجيفي السُني .. هُم وقود هذه الحروب المُجرِمة وهُم مَنْ يدفع الثمن دائماً ، بسبب حماقات أُمَراء الحَرب وجشَع مافيات الفساد من كُل الأطراف .
هذهِ الآلاف المُؤلَفة من الموصللين ، هُم نازحون بإمتياز ، بِكُل ما يُمّثِله النزوح من مأساة إنسانية .. ذلك النزوح الذي جّرَبتهُ شخصياً في 1991 . 
..........................
لايقتصر الأمر على نازحي الموصل ، فالحال نفس الحال ، في الفلوجة والرمادي وتكريت وبعقوبة وبغداد وغيرها . فدائماً هنالك نازحون خمس نجوم ونازحون عاديون .