الشعب والجيش.. الثقة أجمل ولكن الشك أصدق وأكثر حكمة |
على مقالة حول انتصارات الجيش في تلعفر، نشرت في موقع داعم للحكومة وجدت التعليق التالي: إنها ذات الأسئلة وذات "حركة القلب" التي رافقت كل "الغرائب" في حرب الجيش على داعش والقاعدة وبقية أسماء الإرهاب السوءى. ذات الأسئلة التي طرحت عن رفض الجيش دعم مدينة عنه ليلة كاملة، واختفائه عن دعم سجن أبو غريب مثلها، ودوره الغريب في مجزرة بهرز، ونتيجة هجومه الغريبة على الأنبار والفلوجة وتمكن القاعدة خلال ذلك الهجوم من الإستقرار في المدينتين... عجائب كثيرة، وعندما تكثر العجائب يكون لها دائماً جواب واحد، وكثيراً ما يكون جواباً بسيطاً يدهش الناس أن أحداً لم يره، ولكن "بعد الحدث"! أما الآن فالحقائق مختلطة على أشد الناس وعيا وثقافة، في وقت نحتاج فيه إلى الرؤية الواضحة البسيطة أمس الحاجة، لكي نستطيع أن نتخذ موقفاً سريعاً وحاسماً. إنه موقف صعب بكل معنى الكلمة ولا مفر من أنه سيكبدنا الكثير من الخسائر، كأي جيش يصاب بالعمى المؤقت في لحظة حاسمة من المعركة. هذا "العمى المؤقت" الذي لن نعرف إلى كم سيستمر، هو من الشدة اليوم بحيث أننا لا نستطيع أن نميز على وجه التأكيد إن كان من هو أمامنا أشد أعداءنا خطراً أم أكثر أصدقاءنا املاً. أنظروا إلى الموقف المتناقض بين ابناء الشعب من الولايات المتحدة ومن إيران مثلاً. مهما اختلفنا على رؤيتنا لأصدقائنا وأعدائنا، فلعلنا نستطيع أن نتفق أن مجرد هذا الخلاف بهذه الحدة، هو دليل أكيد على إصابة بصرنا بعطل خطير، وأنه لا بد أن وراء خلل بهذا الحجم المهول جهة تتعمد التشويش على راداراتنا، التي لم تخنا يوماً كما تفعل الآن ولم تتناقض إشاراتها في تاريخها منذ خلقنا. أن اي حيوان أبسط منا يعرف تماماً اعداءه ويميز أصدقاءه بلا خطأ، فما الذي جرى لرادارات أدق تلك الحيوانات وأرقاها عقلا؟ مثل هذا الخلل لا يأتي من وحده، ولا يأتي صدفة بهذا التوقيت الخطير. فمن الذي يقف وراءه؟ لحسن الحظ نستطيع تبسيط السؤال بالتساؤل: "من الذي يقدر على إنجازه"؟ وهنا يبدأ الجواب بالخروج من الضباب، فهناك جهة واحدة قادرة في العالم على إنجاز ذلك، ولها مصلحة فيه. لا يبقى سوى تشويش بسيط: هل تقوم هي به أم ذيولها؟ الحقيقة أنه تشويش لا أهمية له، فتلك الجهة وذيولها يقفون في خندق واحد، وإن وجهنا قذائف وعينا إلى ذلك الخندق فليصب منهم من يصيب. قد نختلف في اهمية كل من الطرفين في حربنا لكننا نتفق أنهما يعملان معاً ويقوي أحدهما الآخر. لنتوقف لحظة لمناقشة من مازالت الصورة عنده مشوشة بسيل الكلام الإعلامي الفارغ المسلط في أجوائنا عن "صداقات" خرافية لا وجود لها وآمال وهمية تؤكد لنا الأحداث يومياً بأن لا امل منه. فما يقدم لنا كصديق لنا معه معاهدات صداقة، ليس صديقاً ، بل وحش رهيب مسلح من أعلى رأسه إلى اخمص قدمه بالشر والإرهاب. ومنذ أن ولد على هذه الأرض وهو يملؤها رعباً وسلاحاً، وهو لا ينظر إلينا إلا كضحية سمينة سهلة. ليست هذه الصورة سهلة القبول لمن أمل كثيراً بهذا الصديق في "ظلمة الدرب العسير" هذا، لكنه لو راجع الحقائق فسيجدها واضحة، ومنذ القدم. قبل أكثر من خمسمئة عام، خرج رجال ونساء الـ "أراواك" العراة من قراهم على سواحل جزيرتهم ليلقوا نظرة على ذلك القارب الغريب الكبير الذي حمل كولومبس وبحارته إليهم، فرحبوا بالغرباء وحملوا إليهم الطعام وسارعوا يبادلوهم الهدايا. هذه اللهجة لمن لديه أذن تسمع، هي ذات لهجة وحوش اليوم التي فرخها كولومبوس على تلك الأرض قبل خمسة قرون. إن أحفاد ذاك الذي لم ير في اصحاب الأرض التي وقف عليها وأكرموه، سوى "خدم جيدين" لا يرون في العراقيين إلا "خدم جيدين" و"إرهابيين جيدين" يضربون بهم أعداءهم وخصومهم ليحطمونهم ويتحطمون بهم. إن كانت وحشية أؤلئك الغرباء لا تورث وتنتقل إلى الأجيال بالجينات، فإنها تورث وتنتقل بالنظام الإجتماعي الإقتصادي الذي لم يزل ذات النظام الوحشي الذي كان يحكم أوروبا في القرن الخامس عشر ويحدد أخلاقياتها وتاريخها الطويل المكون من أبشع الحروب في التاريخ وأكثرها قسوة واستمراراً. لم تسعف من رحبوا بتلك الوحوش وفتحوا لهم بيوتهم، لاطيبتهم ولا أوهام آمالهم ولا هداياهم. لقد أخطأوا الخطأ الفادح بتقديمهم الطعام الذي ادام حياة من استعبدهم ثم أبادهم حين تبين لمستعبدهم انهم لا يصلحون للعبودية كما تصور أول الأمر: "الهجوم على قبائل تاينو المسالمة التي كانت تعد بالملايين عام 1492 عندما التقت بكولومبس، كان من الفعالية بحيث أنها أبيدت عن آخرها تقريباً بعد أربعين عاماً من ذلك اليوم." (3) لا شك أن الـ "أراواك" والـ "تاينو" قد لاحظوا بعض العلامات الخطرة لزوارهم الغرباء الذين يحملون العصي التي تجرح من يمسكها، وربما لو أنهم واجهوا تلك "الحقائق" واتخذوا منها بلا تأخير، موقفاً مسؤولاً لعاش أحفادهم حتى اليوم، لكن طيبة الـ "أراواك" البسطاء وفهمهم للعالم وتصورهم أن جميع البشر مثلهم يبغون الحياة والسعادة وتبادل الهدايا، منعتهم من أن يتخيلوا ما يمكن أن تفعله الوحشية بمن يحسن الظن بها إن هي أعطيت الفرصة وأدخلت البيوت. إنهم لشدة ثقتهم بالإنسان، يرفضون الشك بأي إنسان، أو هم يأملون الخير بكل إنسان. ربما شلتهم الصدمة ودفعهم الخوف من التعذيب بعد ذلك إلى تجاهل تلك الملاحظات والحقائق والعودة إلى التفكير المتمني بالأماني اللذيذة، دون أن يدركوا أنهم مهددون بتعذيب أشد وأعظم. تهديد سوف يتسبب في إبادة أجيالهم بعد بضعة عقود. ولكن مهما كانت العلامات التي حصل عليها الـ "أراواك" عديدة، فلا يمكن أن تكون بقدر ما حصل عليه العراقيون من حقائق وبقدر ما تجاهلوه ودفعوا الدماء سخية جراء هروبهم من تلك الحقائق المخيفة بشأن هؤلاء "الأصدقاء". إن أسباب تشوش الصورة على العراقيين مختلفة بالتأكيد، وأحد أهم تلك المشوشات حقيقة أن أحفاد كولومبوس خنقوا الكلب الذي كان يدمي قلوب العراقيين وكرامتهم لعقود طويلة، فنسوا أن من جاء بالكلب لم يكن إلا هؤلاء أنفسهم، والمتمني ينسى كل الحقائق غير المناسبة! السؤال الكبير الذي يشغل العراقيين اليوم: هل نشكك بقواتنا المسلحة أم ندعمها بالثقة الكاملة في وقت الحرب على الإرهاب؟ من الناحية الثانية، الذين يرفضون التحقيق مع الجيش واتهامه يدعون أن هذا سيخفض من معنواياته في مواجهة داعش، لكن دعونا نسأل أنفسنا: هل هذا صحيح حقاً؟ هل رفضت قيادات الجيوش أن تحاسب ضباطها المقصرين أو الخونة أثناء الحرب؟ هل كان هتلر مثلاً لا يهتم بالنصر عندما حاسب وأعدم قادة جيشه الذين ثبت لهم خيانته، وكذلك الفرنسيون والأمريكان حتى في حرب تحريرهم من بريطانيا ذاتها؟ بل لعله لا توجد حرب واحدة في التاريخ لم يحاسب ويعدم فيها بعض المتهمين بالخيانة، فهل هؤلاء كلهم لا يعرفون قصة ضرورة "دعم الجيش" وأهمية "معنوياته"، والمدافعين عن حصانة الجيش العراقي من المحاسبة، وحدهم يعرفونها؟ إذن فدعاة عدم محاسبة الجيش، لم تكن يدفعهم حقاً حرصهم على معنوياته وعقيدته، بل العكس تماماً! لكن مهلاً، فهذه الخدعة التي وقفت وراءها جيوش الإعلام الداعشية، قد انطلت على الكثيرين من اعلى المثقفين الوطنين حتى أدناهم اطلاعاً، وأختلط هؤلاء بؤلئك الذين قصدوا الشر حين أسسوا تلك الخدعة، فصار صعباً جداً التمييز بينهما رغم ضرورته. ما سوف يميز بينهما هو من سوف يستمر بنشر تلك الكذبة ومن سوف يتوقف ويتخذ الموقف الصحيح المضاد، بعد معرفة الحقيقة هذه! إن المشاريع الأمركية الإسرائيلية في العراق إجرامية بشدة، وتعرض أصحابها إلى المساءلة الخطرة التي قد تكلفهم حياتهم. لذلك سعى الأمريكان كثيراً جداً لإعطاء الحصانة لجنودهم كشرط ضمن محاولتهم لتمديد بقائهم. ولنفس السبب فأن داعش الإعلام قد بذلت جهداً كبيراً جداً لتوفير حصانة أفتراضية لمجرميها عن هذا الطريق، وهدفها تمكينهم من الإستمرار في المشاريع الموكلة إليهم. أن ما ترومه داعش الإعلام في حقيقة الأمر ليس دعم معنويات "الجيش العراقي" بل دعم معنويات عملائها داخل الجيش، داعش الجيش، لكي لا يترددون في تنفيذ المهمات القادمة، ولكي تنفذ الخطة الإسرائيلية المدمرة حتى نهايتها. إن الوقت للقرار السليم لم يعد طويلاً، والتردد واستمرار مماحكة الحقائق وتمني طيبة العدو تهدد بكارثة لا تبقي ولا تذر. إننا عندما نقرأ قصة "الأراواك" فإننا نغرق في التأمل الشاعري لجمال الثقة الإنسانية التي كانوا يمتلكونها لأننا نأمل في داخلنا أن يمتلك جميع البشر الطيبة التي تبرر الثقة وتحول العالم إلى جنة على الأرض. لكن تلك الثقة "الجميلة" هي ذاتها التي أدت بأصحابها إلى الكارثة. فأحلامهم منعت عنهم الشك الضروري لإثارة الإنتباه للخطر والصدق في الإعتراف بمؤشراته والإستعداد لتحمل تبعات مواجهته، بدلاً من تركه يتعاظم حتى يوصل أمته إلى نهايتها. إننا أمام حالة واضحة الخيانة ، وأسباب الكارثة المباشرة لا مجال لإنكارها. إن تحويل النقاش إلى تهم أخرى كالجبن أو الخلاف السياسي أو التوتر الطائفي أو "نقص الهوية الوطنية" أو إشكالات يتم استخراجها من بطون التاريخ بين مكونات الشعب أو الجيش، كلها ببساطة وبالعراقي الفصيح: كلاوات! كلاوات تهدف إلى تضبيب الحقيقة الواضحة التي هي بحاجة إلى موقف مباشر وجريء. الجيش بحاجة إلى أن يحاسب المفسدين فيه ويفضحوا أمام الناس ويتم تنظيفه منهم ليثق الناس به، ولكن قبل ذلك محاسبة هؤلاء الثلاثة وأعوانهم وعدم التردد في إعدامهم إن تبين تقصيرهم الخطير، بعد السعي لمعرفة من يقف وراءهم، فمثل هذه المغامرة لا يقدم عليها أحد من نفسه بلا سبب لا يترك له خياراً. هل ستفعل الحكومة ذلك؟ كل المؤشرات تقول لا، فالأكاذيب مستمرة والتهريج هو ذاته، ويبدو أن ما سيحدث سيكون مسرحية أخرى من مسرحياتها كثيرة الضوضاء قليلة النتيجة، فهي تقع أيضاً تحت الضغط الشديد لسادة داعش ولا تريد أن تتحمل خطورة غضبهم، وإن أردناها أن تتصرف مرة واحدة لصالح الشعب فلا بد من إفهامها أنها هي بالذات ستكون معرضة للخطر إن لم تفعل ، وأن تهمة الخيانة العظمى والمحاكمة والإعدام ستصل إلى أعلى الرؤوس السياسية التي ستتجرأ على تهريب خونة الشعب بأكاذيبها إن فعلتها هذه المرة. إن لم نعط الحكومة والسياسيين الفاسدين هذا الإنطباع فالسيناريو لن يتغير، وسيحصل العملاء على حصانتهم وثقتهم بسلامتهم ويعطى الضوء الأخضر لداعش الكبيرة لتتحرك إلى الخطوة التالية، وسيستمر "حرق القلب" والأسئلة المتعجبة التي طرحها أحمد الجبوري عن تلعفر، وطرحها ويطرحها وبقية العراقيين في عنه وبهرز والموصل والأنبار، عن "أعاجيب" هزائم جحافل الجيوش التي دربها الناتو "على أحدث تقنيات المواجهة" أمام عصابات داعش وهي تمضي في خطة إنهاء هذا البلد وتحويله إلى مستودع للنفط لحساب أسيادها، وتحويل أهله إلى هراوات إرهابية بيد إسرائيل تضرب بهم من تشاء من شعوب المنطقة، التي مازالت لم تخضع بعد.
|