داعش والقرارات الصعبة للإدارة في العراق |
السياسي كالطبيب مطلوب منه أن لا يحدث ضررا أكبر في جسد الدولة التي تحتضنه، وعندما يجد نفسه غير قادر على معالجة الأزمات التي تواجهه عليه أن يقر بعجزه وفشله ولا عيب في ذلك، فهذا سلوك الأبطال ومن يشعرون بتحمل المسؤولية، فقد قدم شونغ هونغ دوون رئيس وزراء كورية الجنوبية استقالته بعد 11 يوما من غرق العبارة سيول التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة قتيل، وقال في خطاب اعتزاله: " شعرت بأنني كرئيس للوزراء يتعين علي أن أتحمل المسؤولية وأن أستقيل.. الاحتفاظ بمنصبي عبء كبير جدا على الإدارة "، إذا تحمل الرجل المسؤولية لأنه فشل في إدارة أزمة عبارة تعرضت إلى حادث، فهل يقارن ما يجري اليوم في العراق من أزمة خطيرة بأزمة العبارة؟. تقول التقديرات الأولية أن الانهيار الأمني أمام تنظيم داعش والمتحالفين معه منذ 8 حزيران الجاري والى الوقت الحاضر جعل التنظيم يستولي على ما لا يقل عن ثلاثمائة ألف قطعة سلاح بين الصغيرة والمتوسطة والثقيلة وهي غنائم تعود إلى ثلاثة أو أربعة فرق عسكرية تركت قياداتها مواقعها وانهزمت بطريقة دراماتيكية غير مفهومة، وأصبحت هذه الجماعات تستولي على مساحات شاسعة من محافظات عراقية عدة، دون أن تخفي هدفها باحتلال بغداد والنجف وكربلاء، وتمارس عمليات قتل لا تعرف الرحمة بحق معارضيها من الأجهزة الأمنية والمواطنين على اختلاف هوياتهم الدينية والقومية، وأمسى العراق نتيجة هذه الأحداث قاب قوسين أو أدنى من الانقسام والحرب الأهلية الطائفية، ووصل عجز القوى الأمنية إلى درجة اضطرت معه المرجعيات الدينية الشيعية والسنية إلى إعلان الجهاد والتعبئة العامة في صفوف المواطنين لمواجهة الخطر المحدق الذي تتعرض له البلاد، وهو عجز لم يخفيه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عندما صرح بنيته إلى تشكيل جيش جماهيري رديف للجيش الوطني لمواجهة المسلحين المهاجمين. وتأتي كل هذه التطورات بعد عشر سنوات من العملية السياسية في العراق، وثمان سنوات من إدارة رئيس الوزراء الحالي، التي أنفقت ما لا يقل عن 150 مليار دولار من أموال العراقيين على بناء الأجهزة الأمنية، فأين ذهبت هذه الأموال؟ ولماذا فشلت هذه الأجهزة في مقاومة التنظيمات المسلحة ومكنتها من احتلال محافظات عراقية بأكملها وتهديد أمن مواطنيها؟. معظم المعلومات تقول أن الخلل لم يكن في العدة والعدد عند الجيش، وإنما كان في حلقات القيادة العليا المدنية والعسكرية بسبب تخبطها، وعدم مهنيتها، وضعف معلوماتها، وربما خيانتها التي جعلت رئيس الوزراء نوري المالكي يقول أنه تعرض إلى خدعة ومؤامرة لم يكن هو وأركان قيادته مستعدين لمواجهتها. إن حصول ما حصل هو كارثة بكل المقاييس العسكرية والسياسية ستتصاعد تداعياتها في الأيام والأسابيع القادمة، مما يكشف بما لا يدع مجالا إلى الشك عن فشل وعجز كبيرين في إدارة المالكي للدولة، فقد أثبتت التجارب منذ منتصف الدورة النيابية الأولى لتوليه هذا المنصب أن إدارة الرجل للأزمات تعمل على تفاقمها وليس حلها، وقد يكون السبب في ذلك أنه ليس رجل المرحلة في العراق، أو أنه استنفد جميع قدراته ولم يعد لديه ما يقدمه، أو أن أدائه هو هذا ولا يعرف غيره، وأمام التحدي الداخلي والخارجي والظرف الخطير الذي يمر به العراق اليوم، ربما حان الوقت لرئيس الوزراء أن يعيد النظر في حساباته، ويقر بعجزه، ويعلن أمام العراقيين اعتزاله واعتذاره عن دماء أبنائهم التي ذهبت هدرا خلال سنوات حكمه، فضلا عن أموالهم الطائلة التي ضاعت بسبب الفساد المالي والإداري المستشري في حكومته، وتعريض أمنهم وسلمهم الأهلي ووحدة بلدهم وسيادته إلى خطر حقيقي فادح. وقطعا سيحتاج الأمر من الشعب العراقي، ومن مرجعياته الدينية، ومن قادة العراق الآخرين موقف موحد وحازم يساعد رئيس الوزراء على اتخاذ هذا القرار، واختيار بديل له يمتلك المهارات الدبلوماسية والإدارية والمواصفات الشخصية التي يستعين بها على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين الوطنيين والدوليين، لإطفاء نائرة الخلاف والنزاع وبناء جسور الثقة، ووضع ثوابت ديمقراطية لبناء الدولة في العراق، تساعد على عزل التنظيمات المسلحة وتحويل الأماكن التي يتواجدون فيها داخل العراق من حواضن لهم إلى مناطق معادية لا يستطيعون الحصول فيها على موطئ قدم. إن إقدام رئيس الوزراء على تقديم استقالته في الوقت المناسب، واختيار بديل كفوء للمرحلة يتفق عليه الجميع لتولي زمام الإدارة، ومحاسبة الفاسدين والمقصرين في مواقع القيادة العليا الإدارية والعسكرية، وتحديد ثوابت ديمقراطية واضحة لبناء الدولة، واستثمار الزخم الوطني للعراقيين في التطوع لمحاربة الإرهاب بعد فتاوى المرجعيات الدينية من أجل إشراكهم جميعا في معالجة ملفات الأمن والفساد والجريمة، وبناء جسور المحبة والسلام بين الطوائف والمكونات العراقية وقياداتها الفاعلة، ووضع آليات صحيحة للمراقبة والمحاسبة وإنفاق المال العام ستشكل جميعا قرارات صعبة يجب على الإدارة في العراق اتخاذها من اجل تجاوز خطر المرحلة الجديدة التي فرضتها تنظيمات داعش وحلفائها، فهل تمتلك هذه الإدارة الشعور بالمسؤولية والشجاعة على اتخاذها أم ستفضل مصالحها المباشرة والآنية على مصالح شعبها الحاضرة والمستقبلية؟.
د. خالد عليوي العرداوي:مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية..
|