أفكار ثائرة على نار هادئة!

كانت الصدمة كافية لتشل قدرات الكثير منا على قبول فكرة أن ماحدث في الموصل هو من ضمن المعقول والمقبول. فخلال اليومين الأولين من الحدث كانت كل الأسئلة تدور في فلك دائري واحد ، مالذي حدث؟ ، وكيف حدث؟ ، أنه حدث غير معقول ، أين الجيش والقوى الأمنية والشرطة؟ وآلاف الأسئلة الأخرى التي لم تجد جوابا شافيا لها لا من الإعلام العراقي أو من المسؤولين العراقيين. بحثت في الفضائيات العراقية الرسمية منها وشبه الرسمية والتجارية والسياسية والطائفية فوجدتها تبث أخبارا مبتورة وقصيرة وكأنها تنقل أخبارا عن أحداث تجري في دولة أفريقية! أغلب تلك الفضائيات كانت تبث برامجها العادية المتضمنة "طبخة اليوم – تبسي باذنجان" أو مسلسل كوري "مؤثر جدا" أو مسلسلات تركية أو سورية أو مصرية.

أحداث مؤلمة ومؤثرة رافقتها تغطيات إعلامية – بائسة – وتصريحات – غير مسؤولة - لمسؤولين حاولوا الإيحاء بأن ماحدث ليس من الأهمية بمكان حيث سيتم القضاء على الإرهابيين قريباً! ، في الوقت الذي تشير أخبار أخرى إلى سرعة تقدم الإرهابيين بإتجاهات أقل مايقال عنها انها مخيفة! إدعاء المسؤولين العراقيين بقرب نهاية الإرهابيين ذكرني بفكرة "رمي الصهاينة في البحر" التي تغنينا بها منذ إحتلالهم فلسطين لكننا لم نتمكن من رميهم بقشرة موز طوال أكثر من ستة عقود.!

بعيدا عن كل التسميات الطائفية التي يمقتها الكثير من العراقيين المخلصين والخيرين ولايودون تداولها أو حتى سماعها كردة فعل لما آلت إليه الحال تحت ظل الديمقراطية المستوردة ، وليس من باب الشماتة ، أود مخلصاً أن أذكر أننا كنا نملك خيارا مخلصاً كان شعاره "من أجل البديل الأفضل" لم نستغله ولم نختره على الرغم من أنني على يقين بأن ملايين العراقيين لم يمنحوا أنفسهم حتى فرصة صغيرة في وقت الإنتخابات النيابية الأخيرة للتفكير بمستقبل العراق على ضوء الإحداث الآنية التي مر ويمر بها العراق منذ إحتلاله على أقل تقدير. على أية حال ، أمامنا اربع سنوات أخرى ستكون مليئة بأحداث لن تختلف في مضامينها ونوعيتها ومسبباتها ونتائجها عما شاهدنا خلال هذه الأيام وهو أمر أتوقعه مستنداً على مجمل سير الأحداث منذ عدة عقود مضت. أقول ذلك عن قناعة معتمداً بعض المؤشرات وردود الأفعال للحوادث الإرهابية المتسارعة التي شاهدتها وأطلعت عليها عبر وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب ووسائل التواصل الإجتماعي الأخرى.

ان سرعة الحدث وصدمة المفاجأة لم تسمحا للقيادة السياسية والعسكرية والأمنية العراقية المتمثلة بشخصية رئيس الوزراء وحده من – القضاء على بؤر الإرهابيين – الذين شقوا طريقهم مستخدمين أسلحة تعود للجيش العراقي نحو الجنوب ليصلوا محافظات صلاح الدين وديالى وربما مشارف العاصمة!

كالعادة تسارعت الأحزاب والتنظيمات الرسمية وغير الرسمية إلى إصدار بيانات و"بلاغات" لم تتخط بمجملها في إسلوبها ذلك الإسلوب الخطابي الثوري الذي "يستنكر ويستهجن" الإرهاب وداعش والقاعدة وفلول البعث متناسين أن الكثير منهم يحتضنون ضمن صفوفهم بعثيين ومتخلفين ودجالين ممن لازالوا يعملون بكل جد ونشاط ضمن تنظيمات مختلفة في تسمياتها كلها تصب في بودقة واحدة. أن مثل هذه التصرفات بالطبع تساهم في تخريب وتدمير وحدة الشعب العراقي وتشتت تضامنه وتشوه وتدمر "التجربة الديمقراطية" !

نحن بحاجة إلى بيانات وخطابات من نوع آخر، بيانات ناضجة بمستوى طروحاتها في عرض المشكلة ، وتحليلها ، وإقتراح الحلول لها ، كل ذلك بإختصار دون المساس بالمعنى والهدف من هذه البيانات. إن أتباع الصيغة العلمية في كتابة البيانات لاتحتاج لشهادات أكاديمية وتخصصات سياسية إنما تحتاج إلى فكر تنويري واضح وشفاف لايمارس أية إزدواجية في التعامل مع الآخرين ومع الحدث إنما يعمل من أجل لحمة العراقيين وليس تفتيتهم. كم هو جميل أن تقرأ تحليلاُ – معقولاً – عن مشكلة يعقب ذلك أقتراح أو أقتراحات لحلها، لكي تتكون لدى المتلقي صورة واضحة ومتكاملة.

الواضح من خلال متابعاتي على الشبكة ووسائل التواصل الإجتماعي أن مناقشة الأحداث الداعشية في العراق لم تأخذ مجالها الصحيح والموضوعي. كثيرون القوا باللوم على الإحتلال وعلى النظام الحالي دون تحديد لطبيعة المشكلة أو السبب الذي دفعهم لمثل هذه الإتهامات. فمن السهل جداً أن نقول أن سبب المشاكل الحالية يعود لسوء إدارة السلطة التنفيذية الحالية دون الإشارة إلى أن نظام المحاصصة الطائفية الذي فرضته سلطات الإحتلال هو السبب في تعميق الفكر الطائفي في المجتمع العراقي وبالتالي بروز مراكز قوى وأحزاب دينية وطائفية ساهمت بمجملها في تدهور الوضع الأمني الأمر الذي أدى إلى حدوث ثغرات كبيرة مرت من خلالها تنظيمات إرهابية متخلفة ، بنفس الوقت أنحازت السلطة التنفيذية إلى جانب واحد وبذلك تكون قد فقدت فرصة تأريخية في إدارة دفة البلاد وفق منظور ديمقراطي ومدني حضاري يرسو بالسفينة العراقية على ساحل الأمان بعد رحلة مرعبة مع نظام ديكتاتوري دمر الوطن والشعب.

كان الأجدر بالحكومة الحالية أن تعمل على القضاء على كل العوامل والأسباب التي سمحت للأنظمة السابقة بممارسة الإضطهاد ضد الآخرين وليس محاولة أو السماح بالإنتقام من الطرف الآخر. ان استمرار عمليات الإنتقام سيؤدي إلى مزيد من الدمار وإلى نتائج سلبية قد تنتهي بتقسيم العراق إلى دويلات صغيرة قابلة للإبتلاع من قبل دول الجوار.

انها دعوة صريحة لتبني مبدأ قيام دولة مدنية ديمقراطية تضمن حقوق كل العراقيين تحت مظلة المساواة في الحقوق والواجبات بعيدا عن التدخل في الأديان والمعتقدات وهذه لن تتم بدون أولاً، مصادقة المحكمة الإتحادية على نتائج الإنتخابات الأخيرة وأنتخاب رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء مقبولين من كل الفرقاء السياسيين لتشكيل حكومة وطنية انتقالية مطعمة بتكنوقراط في وزارات الدولة المهنية والفنية والخدمية وإبعاد شبح تدخل الأحزاب الدينية في شؤون إدارة البلاد.

هي مسؤولية الشعب والأحزاب والمثقفين والأدباء والسياسيين ، وتحقيق ذلك يتطلب سنوات طويلة من العمل الجدي المخلص.