عندما انسحب الجيش العراقي امام تقدم مقاتلي داعش في الموصل، اعتقدت اولا ان ذلك الانسحاب "التكتيكي" مرده هو وعي ادارة السيد المالكي لحقيقتان مهمتان جدا وهما: اولا: الحرب ليس فيها منتصر، فدخول الجيش ثانية، سيكون ثمنه سقوط مئات الالاف من الضحايا المدنيين، دون ضمانة من ان هذه الميليشيا سوف لن تهاجم المدينة ثانيا وثالثا وعاشرا، بظل وجود حواضن لها، ونسبة من التعاطف الشعبي الذي لا ينكر. اي ان الانسحاب جاء تجنيب الاصابات بالجيش وبالمدنيين، واخذ الامور بالعقل، لايجاد حل جذري. وثانيا: ان داعش هي ليست سوى ميليشيات منفلتة، جل عناصرها من مجرمي السجون ومن المغررين الطائفيين، اي اشبه بحركة رعاع مسلحة، ليست لديها ايديولوجيا ولا برامج تمكنها من ادارة المناطق التي تحتلها، وبالنتيجة فانها سوف تصطدم بعقبات كثيرة مثل تقديم الخدمات، كالصحة والتعليم والتخطيط، الخ. مما يسبب تذمرا شعبيا متسارعا يؤدي الى عزلها عن السكان ومن ثم سهولة اخراجها من المدينة بابسط تكلفة ممكنة، والى الابد.
كنت اعتقد وانا اشاهد الجنود ينسحبون على الطرق الخارجية، بالملابس المدنية بانها "حكمة" من رئيس الوزراء، خصوصا بعد ان رفض الطلب من حكومة اقليم كردستان بالتنسيق المشترك في الحرب، اي رفض الدخول في الحرب. وحتى خطاب السيد المالكي الاول بعد سقوط الموصل، وتصريحه العنيف بانه سوف يقوم بتطهير المدينة خلال 24 ساعة فقط، فهمته بانه محاولة لتهدأة الشعب ولامتصاص النقمة والهلع الذي اصاب الشارع العراقي، فقط.
وحتى محاولات القاء اللوم على الاطراف الاخرى، مثل شخص المحافظ، او "لمؤامرة" خارجية، او القاء اللوم على اقليم كردستان، لم افهمها على انها اتهامات جدية بقدر ما بدت لي وكأنها جزء من الشد السياسي بين اطراف العملية "الديمقراطية"، وتصفية حساب وتسجيل نقاط في سلة الخصوم السياسيين.
وقد يبدو رهاني على ان الانسحاب كان "تكتيكي" اكثر منه هزيمة، كان خطأ في التقدير، وقد يعتقد المتابع لاحداث الموصل بأن "الحكمة" واللعب على عامل الزمن لا مكان له في التحضير للحروب، خصوصا بعد صدور فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي، الا ان عدم مهاجمة المدينة، المحتلة منذ عشرة ايام، يعطي الانطباع بأن الحكومة تفهم دور العامل الزمني، فالبدء باقتحام الموصل اليوم سيكون اصعب بكثير من قرار اقتحامها بعد شهر او شهرين او اكثر.
حركة داعش هي اشبه بحجر اثري من القرون الوسطى بعثت به الحياة فجأة، فهذا التنظيم لا فكريا يتماشى مع نمط حياة القرن الواحد والعشرين، ولا افراده من الاسوياء الذي يؤمنون بالتعايش الانساني، كل نظريتهم عن الدولة هي تأمين الركيزتان وهما بيت مال وسفك دماء، وربما كانت هذه النظرية صحيحة في القرن الاول الهجري، وكان يمكن اقامة دول، او امبراطوريات على اساس هاتين الركيزتين، في العصور الوسطى، عندما كانت الجيوش الغازية، او الفاتحة، تدخل الى منطقة، مسلحة بالايمان، فتبيد سكانها وتحل اخرين، او تغير الاديان والطوائف، بعدها يعيش الامراء بثراء من مال الباج والخراج الذي يدفعه لهم الفقراء.
ولكن مدينة مثل الموصل اليوم، لا تشبه "دينور" -الكوفة- قبل خمسة عشر قرنا، ولا يمكن ادارتها من خلال نظرية الفاتحين. المدينة اليوم بحاجة الى مقومات (غاز، كهرباء، بنزين، اتصالات هاتفية والكترونية)، بحاجة الى قوانين علمية مدروسة تسير التجارة، ودراسات لتطوير الصناعة، وتخطيط لتأمين مستلزمات المزارعين من اجل استمرار تدفع الغذاء يوميا الى السكان. الاطفال بحاجة الى لقاحات طبية في مواعيدها، والشباب لا يستطيعون التخلي عن ملاعب الكرة، والنساء تحتاج الى زيارة الشلالات للترفيه عن سجن البيوت، والرجال لا يطيقون التحول الى مكائن بشرية، بحاجة الى اماكن ترفيه كالمقاهي والملاعب والسفر.
كيف يستطيع مسلحو داعش الذين لا يجيدون سوى التكبير والذبح، كيف يستطيعون اقامة علاقات خارجية متوازنة من اجل تنظيم حركة التجارة مع العالم، وهم لا يمتلكون في برامجهم ادنى تصور للتجارة، وما هي السياسة المصرفية ولا يؤمنون اساسا بان البلد يحتاج الى اتصالات خارجية.
اذا كان الاخوة في الاحزاب الاسلامية الاكثر انفتاحا، "وحزب الدعوة" على رأسهم، بكل كفاءاتهم في مجال الطب والتدريس، قد فشلوا ببناء دولة مستقرة وهم يحصلون على ميزانيات خرافية كل عام، فكيف بداعش، واثقف من فيهم لم يقرأ في حياته كتابا علميا واحدا، او يطلع على رواية!؟ كيف سيكون حال الموصل، والمواطن الموصلي اذا ما بقت داعش تسيطر على هذه المدينة لشهرين، او ستة، او عام على اكثر تقدير؟ ماذا سيكون وضع الشارع الموصلي وردَه على بدائيتها؟ وهل ستظل لها حواضن في المدينة؟ او هل تستطيع البقاء فيها، ولن يطلب الناس دخول الجيش لا نقاذهم حينها؟
|