لم يصبح ماض بعيد، أو غابر، ذاك الذي كنا مع أخوة مناضلين نرفع فيه الصوت بوحدة العراق، التي بدأ النهاشون في نهشها. كان العراق مُثخناً بالجراح، والأمريكي المنتصر يتبختر في شوارع بغداد، ويتسلى في جعل بعض العراقيين أكياس رماية. كانت أخبار الدمار تحرمنا متعة النوم. لا من من خبر سار، في أيام بغداد الدموية، وكان الذين ناصروا المحتل يرقصون على جثة العراق، الذي تجرأوا على القول بأنه كياناً مفتعلاً، من صنع الإنكليز، من كان يقول مثل هذا الكلام كان يناصر كيانات لم توجد بعد، إذ مازالت خرائط مقترحة في أدراج صناع القرار أياهم في دول التغوّل العالمي، بديلاً عن خرائط سايكس بيكو، باعتبار أن ذاك الزمان قد إنتهى بدون رجعه، وكانوا يناصرون دويلات رسم حدودها عسكري إنكليزي جلف على رمال متحركة، فلماذا حدود سايكس بيكو تلك مختلقة، وخطوط (عصاية) الإنكليزي الجلف على رمال الصحراء مقدسة؟! ولماذا عراق سومر وأكد، وآشور، والعباسيين، كياناً مفتعلاُ، لا يستحق النضال من أجله، ولا الدفاع عنه، وذاك الشيء الذي مازال رسماً مقترحاً في مدارج المخابرات الدولية وطناً حقيقياً يستحق أن يُمجد، و لا يجوز المساس به، علماً بأن أمثال هذه الدول، والدويلات المقترحة، لا وجود لها في ثنايا التأريخ، القديم والحديث، ولا حتى على نحو غيبي، كما الأمر بالنسبة لدويلة الصهاينة، المرتكزة على خرافة أرض الميعاد؟
مدن الملح أصبحت دولا، دولة الكويت، دولة قطر، وهكذا.. ومن المفارقة أن لا أحد يقول دولة الصين، أو دولة الهند، إذ من ذا بمقدوره التشكيك في كون الهند أو الصين، أو ألمانيا، أو مصر، تحتاج أي منها لأن تنعت بالدولة لكي تكون دولة؟، وربما لا توجد دولة، صغيرة أم كبيرة، في الأمم المتحدة، يسبق أسمها لفظ دولة، سوى دول مدن الملح، المرسومة على رمال متحركة. دول الملح التي فاضت بالبترودولار أحدثت فيضاً إعلاميا موسوم بالعربية، وما هو عربي، أصبح ديدن هذا الإعلام الإساءة والإنتقاص من تلك الدول التي هي بحق دول، على سن ورمح كما يُقال، ولهذا لا يستغربنّ أحد أن هذا الإعلام ناصب العراق، والجزائر، وليبيا، وسوريا، ومصر، العداء، وتسبب لها، أو سيتسبب بالكوارث، فالكويت ليست ضرة لبغداد، والدوحة ليست ضرة لدمشق، مثلما كانت البصرة ضرة للكوفة أيام مجد العطاء الفكري العربي– الإسلامي، فمثل دول المدن هذه لا مجال لها في أن تنافس الحواضر الكبرى، لأن كل من هذه الحواضر يمتد عطاؤة لآلاف السنين، ومدن الملح هذه عمرها أقل من قرن. هذه الحواضر الألفية أضحت بنظر البعض عواصم لدول مُخلقة، هجينة، وطفق الكويتبون المهجنون، الغارقون بنعيم الإعلام البترودولاري يشككون بأوطان، سطرت لها حضوراً في منعطفات التأريخ الهامة، وتركت بصماتها على جبين التأريخ الإنساني. هل هي صدفة، تلك التي أوجدت التوافق بين ماتريد أمريكا، والغرب الإستعماري، والدويلة اللقيطة، وما يريده بعض الأعراب، أم هي مصلحة مشتركة، وخوف من مصير حتمي، لا راد له؟ دول تشتري شرطتها، وحرسها، وجنودها، وطياريها، ومضيفاتها، وعمالها، وموظفيها، وصحفييها، ومعلميها، ولاعبي فرقها الرياضية، كيف لها أن تستمر بالوجود، وقد جعلت من نفسها رهينة؟ ودول تبني إعلاما جباراً، لا للدفاع عن مصالحها، ومصالح شعوبها، وأمتها، وفضائها الحيوي، وإنما لشن حروب أمريكا والغرب على دول يفترض أنها شقيقة، وتمنح أراضيها لأعداء الأمة لينطلقوا منها لضرب الأمة، وقدرات الأمة، وكل ما يتصور أنه يشكل خطراً على أمن الدويلة اللقيطة، أنىّ لها أن تسد مسدَّ بغداد، ودمشق، والقاهرة، وأنى لمدنها أن تسدّ مسدَّ الموصل وحلب والإسكندرية؟ دائماً، هناك مسوغ ومبرر للتجزئة، ولمزيد من التشرذم.. لا يحسبن أحد أن الخلاف السني الشيعي لوحده سيكون مبرر تقسيم الأوطان، فهذا المسوغ والمبرر ربما يكون المعول لتقسيم دولاً كالعراق أو لبنان، أو السعودية، لكنه لن يكون هو المُبرر لتقسيم اليمن إلى شمال وجنوب، ولن يكون هو المبرر لتقسيم بلد كمصر، ليس فيها مثل هذا التمايز الطائفي، بل سيكون أمراً آخر، لا خلاف إسلامي قبطي، ولا تمايز نوبي أو سينائي، كما يروج البعض، وإنما ستكون رقعة الخلاف أوسع، وأعمق، ولا تقل إحتراباً عن الصراعات الطائفية، وستتخذ شكل صراع ليبرالي مدني بإزاء إسلاموي، ونفس الشيء يمكن أن يكون بالنسبة لتونس، وسنشهد صراعات لا تقل حدّة بين الطرقية، أتباع الصوفية، والسلفية الوهابية، وسيشمل هذا الشمال الأفريقي برمته، وهو ما بدأت ملامحه منذ سنوات، أما ليبيا التي (حررها الناتو!) فهي سائرة إلى كانتونات قبلية وجهوية. دائماً في جراب الحاوي ما يمكن إستثماره، فطالما المواطن في أي بلد عربي مأخوذ بهاجس الإنتماء المناطقي والقبلي، والطائفي، والأثني، والحزبي، وطالما هنالك ماكنات جهنمية تغذي هذه النوازع، وعلى مدار الساعة، وتضخ قيحها المُعدي، فإن حالنا لن تستقر، ومن دون أن نستقر، سوف لن نبني ونعمر، وسوف لن نراكم سوى النكسات والهزائم. أكثر التبريرات سذاجه قول البعض أننا مجتمعات متعددة، وأننا أطياف وأعراق ومذاهب، لذا لا يمكن أن نبني أوطاناً موحده، وهذا لعمري منتهى الجهل، إن لم نقل السخف، فكل الطوائف والأثنيات والأعراق والمذاهب في دولنا العربية مجتمعه، لا تعادل ربع ما في دولة واحدة من تنوع، كالهند مثلاً، ومع ذلك فالهند وطن موحد، رغم التنوع، ونفس الشيء يقال بالنسبة لكل دول العالم وإن بدرجات، وأجمل وحدة وأمتنها، هي وحدة (التنوع ضمن الوحدة). وحتى لو كنا عرقاً واحداً، ودينا واحداً، وطائفة واحدة، فإن ثمة من يجد وسيلة لتفرقنا وإحترابنا، إذا لم نكن نتمتع بحصانة ذاتية، ألم يحترب العراقيون بعد الرابع عشر من تموز عام 1958؟ أولم تسيل الدماء أنهاراً؟ هل كان التناحر سني وشيعي؟ أم كان تناحراً دموياً، خلقه من خلقه، بين اليسار (الذي يضم السنة والشيعه، والعرب والأكراد وكل الطوائف الأخرى)، واليمين (الذي يضم أيضاً السنة والشيعة، والعرب والكرد، وكل الطوائف الأخرى)؟ وهل كانت حرب اليمن بين طائفتين مختلفتين، أم بين الملكيين والجمهوريين؟ وما توصيف حرب جنوب اليمن مع شماله؟ وما توصيف ما يحدث الآن في ليبيا؟ وأين نضع حرب الكرد فيما بينهم (الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي الكردستاني)؟ لا نريد إنهاء الإختلاف، فهذا مُحال، ولعله مُضر، ولكن المطلوب تنظيم الإختلاف، وهو ما تفعله الأمم الحيّة، فهل نطمح أن نكون من ضمن الأمم الحية، أم أن هذا أصبح أمراً متعذراً، وأننا نغذ السيرصوب دويلات المدن والطوائف؟ |