العباقرة وقضية الفوات،تناسوا وما نسوا ...!! |
قضية الفوات عند العباقرة ، تناولتها في كتابي (للعبقرية أسرارها...) ، ومما ذكرت فيه ، ومما أنقل إليك منه قول الجواهري في دجلة خيره !!: يا دجلة الخير شكـــوى امرُها عجبٌ إنَّ الذي جئت اشكــو منه يشكوني
ماذا صنعتُ بنفسي قــــد أحقْتُ بها ما لم يُحقْهُ بـ(روما)عسفُ (نيرون)
ألزمتهــــا الجِدَّ حيثُ الناسُ هازلةٌ والهـــزلَ في موقفٍ بالجدِّ مقرون
وسُمْتـُها الخسفَ اعدى ما تكونُ له وامنعُ الخســفَ حتى من يعـــاديني
ورحتُ اضمي واسقي من دمي زُمراً راحت تُســقي أخــــا لــؤمٍ وتُظميني نعم هذا ما يقوله الجواهري في ( ذكرياته - ج1) ، ويحدد فيه قضية الفوات لدى العباقرة ، يمنع الخسف على من يسومه الخسف ، ويسقي من دمه زمراً تطفح باللؤم ، ويقول : " بمحض الفطرة التي فطرت عليها ، وبمجرد ما تعاملت به طيلة حياتي في كلّ مجالات الخصومة والمتخاصمين ، والحقد والحاقدين ، بل والغدر والغادرين ، كان في المقدمة مما أعتز به حتى يومي هذا هو الابتعاد ما استطعت عن أظلم حقّاً من حقوق خصومي أو أن أنكر عليه ما قد تكون له من حسنات ، بل حتى أغتفر له ما هو بحدود القدرة على الغفران ، وليسما يتجاوز هذه الحدود ، فذلك لابدَّ من أن يكون طبيعة الملائكة لا البشر ، بل على العكس من ذلك ، فأتنازل كثيراً من حقوقي في الدفاع عن نفسي ." (1) إذن ، فالعبقري - كما يقول د. علي شلق في كتابه عن ابن الرومي - يتناسى لأقسى أنواع الإساءات كأنها خطوط محيت بيد ماحٍ ...لماذا؟ لأنّ الفن يعاني من (قضية الفوات ) في كلّ تجربة ، لذلك فهو لا يتشبث بالظروف العابرة بكلّ ما هو عرض ، مجرياً في قرارة نفسه عملية حسابية ليطلع بنتيجة حتمية عجلى هي : إنّ كلّ وجودٍ يرافقه عدم وكلّ بقاء يعقبه زوال ، وما الاستمرار الحقيقي إلا للوحدة المطلقة، فما الفائدة من التوافه وأعابيث الشحناء؟ إنها تمرّ عليه مروراً خاطفاً ليتفرغ إلى الصراع المستمرمع القدر الذي يعوقه،مدفوعاً بشوق لاهب إلى تلك الوحدة،وبذلك يحقق أعظم انتصار في ذاته للحرية.(2) أخرج عن نص كتابي معلقاً ، من هنا يأتي المثل المعروف ( يا جبل ما يهزّك ريح ) ، ولذلك أقول في قصيدتي الجديدة التي سأنشرها من بعد ...: إنَّ المقاديرَ إنْ غالبتَـــــها غُلِبتْ***** تغدُ المطيّةُ ، ركّبْ فوقها الهدفا المهم شأن العباقرة - ولا أزعم أنني من بينهم - الصراع المرير مع الأقدار ليغلبها ، ويدخل عالم الخلود كرمز عام كبير على المستوى الوطني أو القومي ، أو الإنساني ، وما عدا ذلك فهي من صغائر الأمور التي لا تستحق أن تستحوذ على فكره أو علمه ، أو فنه فيرجع للمسيء إليه ، لا عن سذاجة ، بل لعبقريته الفذة ، وما كلّ حال بحال !! نعود لكتابنا والعود أحمد !! أقول : وهذه من صفات العظماء فيقول ( ج . يانج) : عظمة الرجل تقاس بمدى استعداده للعفو عمن أساء إليه ، في ( مستطرف ..) الأبشيهي : قال الرشيد لأعرابي : بم بلغ فيكم هشام بن عروة هذه المنزلة ؟ قال بحلمه عن سفيهنا ، وعفوه عن مسيئنا ، وحمله عن ضعيفنا ، لا منان إذا وهب ، ولا حقود إذا غضب ، رحب الجنان ، سمح البنان ، ماضي اللسان ، قيل فأومأ الرشيد إلى كلب صيد ، كان بين يديه ، وقال : والله لو كانت هذه في هذا الكلب استحق بها السؤدد (3). يحدد الدكتورعلي الوردي في ( أحلامه) ، من أين يجب أن يأتي العفو قائلاً : للعفو والتسامح منزلة كبيرة ، إذا صدر من المقتدر ، ولكن قد يكون نقطة ضعف ومهانة ، إذا صدر من الضعيف ، لأن الضمير أمر نسبي ، فهو عاجز عن ردع الإنسان عن عمل يهوى القيام به (4) قف عزيزي - نقطة نظام - نخرج عن الكتاب ، ونعلق على قول د. الوردي ، إذ عبقرينا الوردي يتكلم من الناحية الاجتماعية بشكلها العام ، وبحثنا عن العباقرة ، وقضية فواتهم ، فالأمر يختلف من حيث أن العبقري ، ربما يتهاون مع الجميع غير مبال بقوي أو ضعيف ، لأنه منشغل بالصراع مع الأقدار ، وهي الأقوى النمطلق ، مدفوعاً بغريزته للبقاء السرمدي ، يتناسى الإساءات كلها دون تمييز ، شرط أن لا يمس القوي المتسلط المصالح العليا للأمة ، وبالتالي يسقط تاريخياً على مستوى الخلود ، وهو شغله الشاغل دون إرادته ، فتراه يقتحم الأجواء في العلالي ، ويمشي أعرجاً في البراري ، ومن هنا نستطيع أن نتفهم قول الشاعر الفرنسي الشهير شارل بودلير ( توفي 1867م) في ( أزهار شرّه) : الشاعرُ أشبهُ الأحياءِ بأمير ِ الجواءْ يقتحمُ العواصمَ ولا يبالي الرماة ْ وهو في أوج ِ السّماءْ ولكنـّه في الأرض ِ غيره في السّماءْ غريبٌ طريدٌ..موضعُ ازدراءِوعرضة ُاستهزاءْ إنّه متعثر الخطوات لأنَّ جناحيهِ الجبارين يعوقانه عن المشي حقـّاً عاقاه عن الإندماج مع خلق الله ، فعاش تعيساَ بائسا منكسرا ، ولكن أرى أنّ هذا الرفض الاجتماعي ، حقق له الحرية الكاملة ليتصرف كما يشاء ، ويقول ما شاء الله دون قيد أو شرط ، فخلده التاريخ ، ومجدته الإنسانية بعد وفاته ، والتخلص من سلوكه الفردي المعاش كفرد . هذه الحرية الانفرادية التي يمرّ بها العبقري تجعله لا يبالي بزيدٍ أو عمرو ، وليذهب الجميع إلى الجحيم ، وإن شئت إلى النعيم !! هذا الموقف يذكّكرني بالجواهري مرّة ثانية ، عند عودته من منفاه القسري البراغي إلى العراق عام 1968م ، تحرش به ، وبعبقريته بعض المحسوبين على النقد والأدب ، فعلقوا لافتة في حضرته تشير إلى تخلف الشعر العمودي وشيوخه وكهوله ، ومن بين هؤلاء الدكتور سهيل أدريس ، فعند انعقاد مؤتمر الأدباء العرب الأول ، وفي مهرجان الشعر ، فاجأ الجميع بملحمته الدالية الشهيرة ( يا ابن الفراتين) ( 170 بيتاً) ، ومنها المقطع الآتي الذي أشار به إلى صديقه السهيل المزعوم !! وصاحبٍ لي لم أبخَسْهُ موهِبةً ****وإنْ مشَتْ بعتابٍ بيننا بُرُد نفَى عن الشعرِ أشياخاً وأكهِلة **يُزجى بذاك يراعاً حبرُه الحَردُ كأنما هو في تصنيفهم حكمٌ ***** وقولُه الفصلُ ميثاقٌ ومُستَنَد وما أراد سوى شيخٍ بمُفردِه ********لكنَّهُ خافَ منه حين يَنفرد بيني وبينَك أجيالٌ مُحَكَّمَةٌ ****** على ضمائرها في الحكم يُعتَمدُ شاهدي عجز البيت الرابع ( لكنه خاف منه حين ينفردُ) ، الحرية الانفرادية بعد الإساءات التي يمسحها العبقري سلوكياً ، ويخطّها فنياً وشعرياً ، لا حقد ، ولا هم يحزنون ، ومسيرة الإبداع والإلهام سائرة ...!! نرجع يا قارئي الكريم لكتاب السيد كريم ، وهو أنا لمن سها !! نعم قد تستغل قضية الفوات كنقطة ضعف ، فتحل على الشاعر الشاعر أو الفنان المبدع المصائب ، وتدور الدوائر من هذه النافذة الغريزية ، فتجعله هدفاً للسخرية والاستهزاء ، وتضعه في دائرة النفاق ، وعدم الموقف !! ، في حين هو صاحب أكبر موقف في الحياة ، وأبعد الناس عن النفاق كـ ( مارسيل بروست - توفي 1922م) ، هذا الروائي الفرنسي الشهير المسكين ، كان الرجل متسامحاً ، لطيفاً حتى الإزعاج !! والإيحاء بعدم الثقة ، ولم تكن تأكيداته الكثيرة لصداقته تبدو معقولة ، لقد تحد في ( جان سانتوي ) عن تلك (الحاجة للود) ، عن ذلك الإحساس المرضي المرهف الذي كان ( يفيض حبّاً) لدى سماعه كلمة لطيفة ، مما كان يغيض رفاقه ويزعجهم، لأنهم لم يكونوا يرون في ذلك سوى النفاق ، والتكلف ، وقد كتب أحدهم ، إنّه كان يشعر بالقشعريرة عندما كان مارسيل يمسك بيديه مؤكداً صداقته ، وحاجته إلى محبة طاغية وشاملة ، كانوا يجدونه ثقيل الظل ، وكان مارسيل يعرف ذلك ، ويحزن له .(5) لا مشاحة من كانت هذه خصائصه النفسية يمتلك أكبر قدرة من التسامح ، ويتمتع بقضية الفوات في أسمى معانيها. نكرر قولنا قضية الفوات الفنية الشعرية العبقرية ، قضية شخصية بحتة ، لا يجوز التسامح ، وتناسي القضايا التي تسيء للعام ، أو المجتمع ، بالعكس تماما يكون العباقرة أشد الملتزمين بالحق العام ، والحريصين على المصلحة العليا ، ومستقبل الأجيال، إليك هذه الفقرة : إذا كان الكاتب والسياسي الإيطالي المشهور صاحب كتاب (الأمير) ماكيافللي (1469-1527 م)، يذهب إلى أن الغاية تبرر الوسيلة ، وضرب المثل بخداعه وتلونه ، ويدعو - كما جاء في كتابه - للمهابة والقسوة بدلاً من التسامح والعفو والمحبة واللين ، لأن الناس لا يقدمون على إيذاء المهيب خشية من العقوبة في حين أن عاطفة الحب والتسامح لا تلبث أن تخمد .(6) وإلى ذلك ذهب الشاعر العربي قديماً، عندما كانت شريعة الغاب هي السائدة ، بل قل لضعف القوانين الاجتماعية : إذا لم تكن ذئباً على الأرض أجردا*** كثير الأذى بالت عليك الثعالبُ ونحن نرى أن القائد العظيم من كان يجمع بين ميزتي الحب والمهابة ، وإذا كان لا يستطيع أن يفرض نفسه إلا بالسطو والفتك يفقد أحد أهم أركان القيادة ، ويصبح همّه الأول ملذاته ، لا المصلحة الوطنية ، وبصراحة من الصعوبة بمكان أن يستلم زمام الحكم والسلطة الفعلية من يتمتع بقضية الفوات ، لأن في أوطاننا العربية لم يصل إلى المستوى الثقافي الذي يستطيع به أن يميّز بين الحق العام والحق الخاص ، وأن يأخذ القانون دوره العادل والنافذ في المجتمع . ولنأخذ كاندهي غاندي (1869- 19948م) كمثال على حاكم يوازن بين التسامح العام والتسامح الخاص، الرجل كان يرى أن الوسيلة بذرة ، والغاية هي الشجرة ، وكتب يقول : " إننا لا نحصد سوى ما نبذر ."، وبذلك يعتبر الوسيلة جزءاً لا تتجزأ من الغاية ، والحقيقة أنّ غاندي نشأ في عائلة دينية ، علّمته منذ الطفولة ألا يقرب اللحوم ، وتأثر ببعض أفكار الأنجيل ، وكتاب تولستوي ( مملكة الرّب في داخلنا)، وكما يذكر في قصة حياته - كما كتبها بنفسه -, وإن راسكين قد أثر فيه كثيراً أيضاً ، . إنّ ما يهمنا أنْ نفرق بين قضية الفوات التي يتصف بها العباقرة من الشعراء والفنانين ، وهي التغاضي عن إيذاء الآخرين لهم ، والعفو التام ، والتناسي الكامل ، وهي قضية تمس مصلحة الفرد ، وبين سياسة غاندي المتسمة بـ (اللاعنف) إذ تعتقد أن طبيعة الإنسان خيرة بحكم تكوينها ، ويرى غاندي أن تغيير العالم يبدأ أولاً بالتغيير الروحي والمعنوي داخل كلّ إنسان ، ولكن تعتمد أيضاً على قدرة الإنسان على تحمل العذاب أكبر من قدرة عدوه على تعذيبه ، ويجب تحمل العذاب والتضحية ، وكما يكتب غاندي نفسه : ( التضحية هي قانون الحياة ...نحن لا نستطيع أن نفعل أي شيء أو نحصل على أي شيء دون أن ندفع ثمناً له ...) ،. أقول : إن قضية الفوات هي تسامح تام عن إيذاء الآخرين ،بدوافع غريزية ، واللاعنف سياسة عامة ، أو وسيلة لإدراك الحق ، والتحرر بالاعتماد على الذات اقتصادياً واجتماعياً وسياساً يتحكم بها العقل ، لذا اعتبر القرية " جمهورية مستقلة عن جيرانها بالنسبة لاحتياجاتها الأساسية ، ومترابطة معهم حيث يكون الترابط ضرورياً " (7) . من سخرية الأقدار أنّ داعية اللاعنف والتسامح الديني انتهت حياته برصاصة متعصب ديني برهماني بعد أن أطلق عليه شاعر الهند الكبير طاغور ( جائزة نوبل 1913م) لقب المهاتما أي الروح العظيمة ، نعم العظيم بسياسة التسامح الديني ، واللاعنف ودافعها العقل الإنساني المتفهم الواعي ، والتسامح الشخصي الغريزي الذي يمحي كل الإساءات وإيذاء الآخرين له ، وهي التي أطلقنا عليها قضية الفوات ، وما الفوات إلا الحياة ، والتفرغ للإبداع والشعر والفن ، والفكر بلا مبالاة !! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) جزء من المقالة عن كتابي ( للعبقرية أسرارها ... تشكّلها ... خصائصها .. دراسة نقدية مقارنة ) ط دمشق - دار العروبة - 1996م - بتصرف (1) ( ذكرياتي ..) - الجزء الأول - ص 157 - الجواهري . (2) ( ابن الرومي في الصورة والوجود ) : ص 80 الدكتور علي شلق . (3) المستطرف في كلّ فن مستظرف) : لشهاب الدين الأبشيهي . (4) : ( الأحلام ) : ص 80 ى- الدكتور علي الوردي . (5) ( بروست) : مقال بقلم إنطوان آدام ،ص 9 ، ترجمة لطيفة ديب . (6) الأمير : ص 61 ميكافيللي .
|