الحل الصفري والصراع |
بدأت الخلافات بين الافراد والجماعات عند بروز المصالح لتتطور الى الصراع للحصول على اكثر ما يمكن من الموارد لضمان الحياة وليصبح افناء الآخر والحصول على كل ما يمتلكه يسمى ربحا وصارت عملية الافناء والاستيلاء على ممتلكات الآخر من سبل العيش الاساسية واصبح من الضروري ايجاد سبل لكسب الصراع بأقل ما يمكن من الخسائر سواء على مستوى الافراد او على مستوى الدول التي تسعى لبسط نفوذها وهيمنتها على الدول المجاورة لها وكان اللجوء الى الإلهة لتقوم بتقديم مشورتها في ادارة الصراع ولتوضح الخسارة والربح من خلال دعمها لطرف دون آخر فقارون ملك ليديا استشار كهنة معبد دلفي عندما اراد ان يشن حربا على قورش ملك الميديين وللإلهة دورها في حرب طروادة فهيرا واثينا تدعم الاثنين في حين الهة الجمال فينوس تدعم الطراوديين واختلف الامر لدى الاسكندر المقدوني الذي اعتبر نفسه ابن اله وتراجع دور الإلهة ليصبح الفرد هو الإلهة فقاد الاسكندر الفيالق المقدونية بهذه النزعة الروحية ليحقق انتصاراته الكاسحة وبعده برز دور القادة الكبار الذين يحققون الانتصارات وليكون الحل الصفري يحكم العلاقات على مدى قرون من الزمن وحتى يومنا هذا بأنهالحل الامثل والاعظم والافضل بربح احد الطرفين و خسارة الطرف الاخر أي طرف زائد واحد والأخر ناقص واحد والمحصلة صفر فروما انهت قرطاجة من الوجود ورشت ارضها بالملح دون ان تدرك ان سكبيو الافريقي سيحكمها بعد برهه من الزمن. في الاديان السماوية اختلف الامر فالصراع لا يدور حول الاستيلاء على ممتلكات الآخرين وحتى ابادتهم وانما طرح افكار جديدة ونظم حياة مختلفة ولذا الحل الصفري يسعى له طرف واحد وهو الحاكم اما النبي فلا يخدمه الحل الصفري في دعوته فالنبي موسى (ع) في صراعه مع فرعون لم يلجأ الى الحل الصفري بل آثران يرحل بقومه الى فلسطين تاركا فرعون في مصر في حين كان فرعون يسعى للحل الصغرى أما هو او موسى ويجب القضاء على موسى وقومه وهذا الحل لا يتفق مع وجه نظر موسى وطموحاته فلجأ الى حل آخر وهو ان يترك مصر مع قومه سائرا الى فلسطين والمحصلة كلا الطرفين رابح . اما السيد المسيح (ع) فاعتبر الحل الصفري عملية خاسرة فهو يراهن على قبول معتقداته مع تجنب سفك الدماء انه يدعو الى السلام والمحبة والعلاقة بين الطرفين أن أحدهما يدعوا للحل الصفري والآخر يرفض ذلك وانتهى الأمر بصلب السيد المسيح (ع) نأى النبي محمد (ص) عن الحل الصغرى فقد هاجر الى المدينة حفاظا على عقيدته وقومه من الفناء وخلال سنين دعوته رفض ان يكون الرابح الوحيد فقد عقد صلح الحديبية وعوض المؤتلفة قلوبهم عن خسائرهم المادية واجبر الطرف الآخر على القبول بالحل السلمي بالتزام الحوار وطول النفس و في فتح مكة يقول من دخل بيتي فهو آمن ومن دخل الكعبة آمن ومن دخل دار ابو سفيان فهو آمن. ان الدين الاسلامي ينظر الى الربح والخسارة من زاوية (من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) فعمل الخير ربح وعمل الشر خسارة وهذا نتيجة النظرة الشمولية للكون وليس نظرة جزئية. وتغير الاتجاه بعد الخلافة الراشدية واصبحت الامور تتجه نحو الحل الصفري فاعتمدت الابادة الكاملة والرابح ليس +1 وانما اكثر من ذلك فأحد جهتي الصراع يملك كل شيء والآخر لا شيء لديه على الاطلاق وذلك في زمن الدولة الاموية والعباسية. أن الألعاب التي يمارسها الكثير من الناس في عصرنا الحالي كوسيلة للتسلية تعتمد على الحل الصفري تغذى النزعة الداخلية والرغبة في الفوز في اعماق النفس البشرية فلعبة الشطرنج تعتمد اما رابح او خاسر وليس هنالك حل وسط فمن يستطيع قتل الملك فهو الرابح وكذلك لعبة الحية والدرج التي تمثل الموت والحياة والقضاء والقدر واللاعب بين الحية والدرج يستطيع ان يربح او يخسر ومارس الاوربيون المبارزة في القرون الوسطى التي تعني انهاء حياة طرف ليعيش طرف آخر. أحدمبررات عملية الاغتصاب الجنسي الحل الصفريالذي يشكل طموح عاليكامن في أعماق اللاوعي لبعض النفوس فالمعتدى يشعر بأنه يملك قدر الضحية وبإمكانه الهيمنة عليها والتحكم بها فيمتلك الشعور بالفوز الذي يعجز عنه في نواحي الحياة الأخرى فالاغتصاب يشكل لديه النجاح والربح خصوصا عندما يرى الضحية لا حول لها ولا قوة وبذلك غذى شعور الحل الصفري الذي تحدر اليه من سنين الهمجية الأولى. التساؤلات تثار كيف نستطيع ان توفق بين الايدي الملطخة بالدماء وبين الضحايا وكيف نرد كرامة من سلبت ارضه وهتك عرضه فلا بد من ازاحة المجرمين عن المسرح السياسي والعودة الى ضوابط الشرع كما في الآية الكريمة (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وطالما الطرف الآخر يلجأ الى العنف والقتل والتدمير فلا حل سوى الحل الصغرى لعدم وجود مبادئ مشتركة متفق عليها بين الطرفين وبالنظر للتباين بالقيم الموجودة لدى الطرفين لابد ان يكون نتاج الصراع اما رابح او خاسر. ان الصراع الذي أحد طرفيه يملك أكثر من +1 والآخر اقل من -1 بحيث تكون المحصلة اقل من الصفر أي ان أحدهما +3 والآخر -4 فالحاصل سيكون -1 وهو اقل من الصفر وهنا يحدث الخلل في التوازن الاجتماعي وتظهر الفتن والاضطرابات والحركات السرية وهذا ما حدث في الدولة الأموية والعباسية
ان الصراع ينشأ وينمو ويتجذر ولكنه يبقى في دور السكون عندما يفتقد الشعب الى حاجاته الأساسية كالتعليم والصحة والسكن والعمل والمشاركة في الحياة العامة ليتحول الى العنف والتسلح ليأخذ أتجاه ايديولوجي ويشكل اسفين داخل المجتمع عندما الطبقات السفلى من المجتمع ينخر فيها الفقر والعوز والجريمة والحرمان لتتحول من طبقات مستقرة الى طبقات قلقة متوترة ليس لديها ما تحرص عليه وتعتز به هؤلاء المعوزين الذين يستهلكهم سيرهم الحثيث نحو لقمة العيش وعندما يظهر الى النور من يداعب احلامهم يسعون الى حتفهم بخطى حثيثة ،واصحاب الفكر الذين ليس لهم حظوظ في السلطة يجدون في هؤلاء بيئة خصبة لأفكارهم واتجاهاتهم.يصاحب ذلك تدهور في القوات الأمنية من حيث قدراتها وكفاءتها ونزاهتها فالقضاء العادل يلعب دور اساسيا في زرع الأمان داخل المجتمع. ويتطور الأمر ليؤدي الى تدخلات اقليمية ودولية وبذلك تضيع الفرصة على النظام لتحديد أطراف الصراع وأدواته ومداه ويصبح الحل الصفري هو الوسيلة. أن الأحداث التي عصفت وغيرت مسار التاريخ اعتمدت على الحل الصفري فقد اعتمدت الثورة الفرنسية في نجاحها على تدحرج رأس لويس السادس عشر وماري انطوانيت ومدام دي بارى ليتبعهم حشود الزعماء والنبلاء الذين بدورهم تدحرجت رؤوسهم مثل دانتون وروبسبير ومارا وسيق مئات الألوف عبر مجاهل أوربا ليخوضوا الحروب دون ان يدركوا ما هي الغاية؟ ونتساءل هل كان هذا ضروري لنشر مبادئ الحرية والاخاء والمساواة؟اما الثورة البلشفية فقد اعتمدت في نجاحها على الحل الصفري فقد قضت على خصومها والنتيجة انهيارها دون ان يمر عليها قرن من الزمان. لقد اعتمد الحل الصفري في صراعات القرن العشرين كما في الحرب العالمية الاولى والثانية واصبحت الحروب الاقليمية والدولية والنزاعات الداخلية تحمل المآسي والدمار للمجتمع البشري وظهرت الجماعات المتطرفة التي لا تؤمن بغير الحل الصفري كوسيلة لبناء المجتمع وتنظيمه . انقسم الصراع العربي بعد ظهور النفط في مسيرته التاريخية فالدول الخليجية اعتمدت مبدأ (رابح، رابح) بتقاسم المسؤوليات والارباح حسب الظروف ومرتكزات القوى. أما الدول الثورية فرفعت شعار (نفط العرب للعرب) أي (رابح، خاسر) دون ان تأخذ بالحسبان ميزان القوى الدولية وتعرف حجم قدراتها بدأ الربيع العربي بحركة بوعزيزي وخرج الرئيس زين العابدين من السلطة في تونس وربح الشعب التونسي السلطة وليس اقامة نظام وزحف الربيع العربي نحو ليبيا ومصر وسوريا وما حدث في هذه البلدان هو محاكاة لتونس وتطبيق لما حدث فيها ولم يؤخذ بنظر الاعتبار القوى العاملة في الشعب ولا العلاقات القائمة بين مختلف مراكز القوى الموجودة فيه كان من الأفضل لكل بلدان يدرس امكانياته وواقعه وما هو نسيج العلاقات داخل المجتمع على ضوء التغيرات الدولية والاهواء والافكار التي تتضارب داخل هذه المجتمعات وليس اعتماد الحل الصفري للخروج من بوتقة الماضي لقد دفعت ليبيا ومصر وسوريا الثمن من دماء ابناءها واقتصادها لأنها اعتمدت المحاكاة والتقليد وليس الابتكار والتجديد للتحرك ضد الحاكم وظهرت جماعات متطرفة كانت قابعة بين ثنايا المجتمع تتبنى الحلول الصفرية وان يكون الحل مطابقا 100% لما تدعوا اليه سواء عن طريق الانتخابات التي اعتبرتها تمهد الطريق لأهدافها فالمهم من وجه نظرها وضع اوراق في صناديق الاقتراع دون ان تحمل بصمات الافراد وطموحاتهم فصندوق الاقتراع حاوية ورأي افراد معدودين من العقلاء المفكرين افضل من رأي جمع من الغوغاء الذين بأصابعهم التي لم تعرف الاقلام الذهبية والخواتيم النفيسة وماذا بعد ؟انهم يطمحون لتحديد مصير امة بأصابعهم. عندما يفرغ الصندوق تتحرك كل الاطراف لتصفية حساباتها مع بعضها البعض عن الطريق الحل الصفري وذلك نتيجة حتمية لرفضهم القاطع لان يتحكم القرار الشعبي بالقرار السياسي والتشريعي. أن هنالك حقيقة لأمراء فيها وهي ان الشعب العربي تنخر فيه الأمية والمستوى الثقافي متدني ولا وجود لبنى صحية واقتصاديه نتيجة خضوعه لقرون متعاقبة من الديكتاتورية فهو لا يستطيع ان يعتمد على ذاته ويؤكل الحكومة من متطلباته ولا يفرق بين الحقوق والواجبات والحكومات تلعب على هذا الوتر ليسهل لها التحكم بهذا الشعب المسكين فهو لا يعرف الحوار ولا التفاوض وفي الوقت الذي يسعى فيه الى صناديق الاقتراع يلجأ غيره الى الحل الصفري لأنه ابسط الحلول. لعدم وجود القانون والمؤسسات القضائية الكفؤة التي تستطيع ان تحد من الخلافات والجريمة وانتهاك حقوق الآخرين وتمنع اللجوء الى أساليب غير مشروعة تعتمد على المنطق العشائري والقبلي والديني المتطرف لتطغى على التشريعات القانونية وثقافة المواطنة. لقد فشل العراق في ادارة الصراع مع الدول المجاورة وبدل من ان يستعيد اجزاءه المفقودة خسرها بالدخول في حروب لا جدوى منها جرته اليها دول ارادته ان يكون بديلا عنها لتؤمن مواقعها. اننا بحاجة الى فريق لديه استراتيجيات تقود الحوار مع إيران وتركيا وسوريا ليؤمن لنا مياه دجلة والفرات التي تشكل عصب الحياة لنا فهل نستطيع ان نحصل على حقوقنا الدولية من مياه هذين النهرين، دون ان يكون هنالك رابح او خاسر.
|