حين يخدع الشعب نفسه

مشكلة العراق أن من يتصدى للحكم لا يعرف من الحكومة (إدارة الدولة) إلا أنها وسيلة لكسب المال والشهرة والنفوذ، ويزيد المشكلة سوءاً أن معظم الشعب العراقي يطالب من يرشح نفسه لمجلس النواب أن يجد لأبنائهم فرصة للحصول على راتب شهري في أي مكان في دوائر الدولة دون شرط الكفاءة والمؤهلات، وتتفاقم القضية حين لا يقول المرشح إنه ذاهب لبناء الدولة ولانتشالها من الخراب، بل يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.

ومنذ 2003 يختان العراقيون أنفسهم بالرشى، ويخادعون بعضهم بعضا بالواسطات حتى أتخموا مؤسسات الدولة بأشخاص لا يجيدون إدارة الدولة، وأدخلوا للجيش وللشرطة من لا يعرف كيف يحمي البلاد، ولا رؤية ستراتيجية له للأمن القومي في العراق، وحين جاءت ليلة (داعش) الظلماء عرف العراقيون أنهم كانوا طيلة السنوات الماضية بلا نجم يهتدون به، وأنهم كانوا يسخرون من أنفسهم، يضحكون عليها، يغشونها، ويدفعون أموالهم لأشخاص فضائيين منشغلين بتدخين سكائرهم في (السيطرات) ومحادثة عوائلهم...، لا يعرفون إلا إعاقة تحرك المركبات بنقاط تفتيش تمعن في تعطيل الشعب وإذلاله في مشهد يومي بائس.

وإذا شخصنا الخلل في الوزارات الأمنية التي لم تقم بواجبها تجاه الأمانة التي أنيطت بها في حفظ الأمن الوطني فبفضل الاختبار المذل الذي أجرته (داعش) على إمكانات الوزارات الأمنية، فإن الوزارات الأخرى لا تقل خراباً (وفضائحية) في موظفيها ونظم حمايتها التي لا تمنع دخول الأغيار، ولا اختراق من لا معرفة لديهم إلا بالغش والتقفيص والعلس والتفييك، والتغليس، والحرق، وضرب البوري (اصطلاحات سوسيولوجية محلية) وعندما يحمى الوطيس، ويجد الجد، سنعرف أن وزارة التعليم العالي لم تسلم هي الأخرى من أولئك الذين يخونون مهنة (الأكاديميا)، وأن وزارة الزراعة عاجزة عن وضع استراتيجية زراعية لبلاد ما بين النهرين تسهم في تأمين الاكتفاء الذاتي من المرعى والغذاء، وتنسق مع وزارة الصناعة في أمور المكننة الزراعية، والصناعات الغذائية. وأن وزارة الصناعة ليست سوى جيش من المكتبيين الذين يسجلون حضورهم لأجل الرواتب الشهرية، وأنها لا تملك رؤية ولو لتطوير ورش تصليح السيارات ولا للتعاون مع المعاهد الفنية لتطوير الكادر الوسطي في الأيدي العاملة العراقية.

وزارة الثقافة البائسة هي الأخرى، لم تنج من مرض الخيانة الوطنية، إذ لم يرتق أداؤها لهول التحديات الثقافية والمعرفية في الدين والفكر، والسياسة، والتعليم، والحوار الحضاري، والأمن الثقافي، بل لا تعرف كيف يجري الدم المعرفي بينها وبين وزارة التعليم العالي، ووزارة التربية، ووزارة النفط، وبقية الوزارات، أو ليست وزارة الثقافة معنية بثقافة العراقيين العاملين في بقية الوزارات، فما الذي فعلته طيلة السنوات الماضية لجمع شتات العراقيين في الداخل والخارج على صعيد ثقافي واحد يؤكد الإحساس بالوطن وبوحدة كيان الأمة العراقية؟!

أربعون وزارة عراقية إضافية يمكن أن تساعد أي واحدة منهن بقية الوزارات وتسهل عملها، وتوفر عليها جهوداً وأموالا وموارد طبيعية وبشرية، إلا أن وزارات العراق (السيادية وغير السيادية!!) لم تفكر يوما بإقامة ورشات عمل خاصة بوزرائها، ووكلاء وزرائها ومدرائها العامين وبالكوادر الوظيفية العليا لتلاقح خبراتهم وترتقي بمستوى أدائهم وتتعرف على الروابط المشتركة باعتبار أن الوزارات كمؤسسات متنوعة تسد كل واحدة منها حاجة تنفيذية من حاجات هذا الشعب، وترفع كل يوم إلى مجلس النواب مشاريع قرارات تسهم في حفظ المال العام، والجهد العام، وتكفل التطور الوطني لمستوى الوعي والثقافة والأمن والاقتصاد والعلاقات الداخلية والخارجية.

لقد خان العراقيون أنفسهم منذ أن ارتضوا أن يعمل (النواب والنائبات) على توظيف (تعيين) أبنائهم في مؤسسات الدولة دون وجه حق، ودون كفاءة، ولم يطالبوهم بأن (يطهروا) دوائر الدولة من المفسدين والفساد والفاسدين.

لقد خان العراقيون أنفسهم منذ أن ارتضوا إبدال الفكر السياسي الحزبي في إدارة الدولة برئيس كتلة يتصرف بفردية ويفرض شروطه على غيره من الشركاء في مسؤولية بناء وطن خربته الفردية طيلة عقود.

لكل خائن توبة، وقد آن الأوان لأن يراجع العراقيون دستورهم، وضوابطهم لبناء العراق، ويعودوا عن غيهم، بتأسيس أحزاب وطنية خالصة، لا دينية ولا مذهبية ولا طائفية ولا عرقية، ولا مناطقية، أحزاب تعين أعضاءها على إدارة الدولة، ومن ثم يكون لنا حديث آخر، فالأوان لم يفت أيها العراقيون، لتكونوا بمستوى ما يتوقعه العالم من العراق.