بنفس اللحظة التي تبدأ فيها الميليشيات بالظهور العلني مستعرضة قواها في الشارع دون أن تتعرض لها السلطة الحاكمة بقوة وقمعها تنتهي هيبة الدولة بكامل مؤسساتها خصوصا العسكرية منها والأمنية، كون الدولة حينها تتنازل عن أهم شرط من شروط وجودها وديمومتها. ومن هذه الشروط ممارسة سيادتها الفعلية وتواجد مؤسساتها الأمنية والعسكرية في كل نقطة من مساحتها الجغرافية، وفرض هيمنتها وهيبتها بقوة القانون الذي تستمد منه السلطة الشرعية عن طريق توفير الأمن لمواطنيها بأن تكون الجهة الوحيدة التي تمتلك السلاح، بعد ان يكون هذا القانون وهنا نعني به الدستور قد وفّر لها الوصول "في الأنظمة الديموقراطية" الى السلطة عبر صناديق الأقتراع. وأذا ما تنازلت الدولة لسبب ما عن دورها الحيوي هذا والذي يطلق عليه الفيلسوف الأنكليزي "توماس هوبز" العنف الشرعي"، فمن الطبيعي جدا حينها ولغياب هذا "العنف الشرعي" الدستوري والقانوني، أن يأتي عنفا آخر ليحل محلّه وهذا العنف سيكون بالضرورة "عنفا غير شرعيا"، وحينها تقف الدولة عاجزة أمام هذا "العنف غير الشرعي" الذي سيتسع ليشمل كل التنظيمات السياسية الشرعية منها وغير الشرعية سواء كانت قريبة من السلطة أو تلك التي تقف على الضد منها، ويدفعها لسد فراغ الدولة "الضعيفة" بأنشاء ميليشياتها العسكرية للدفاع عن مصالح من تمثلهم سواء كانت تلك المصالح قومية أم دينية أم طائفية أم سياسية. وتصبح حينها هذه الدولة ليست عاجزة فقط بل ومجرمة بحق شعبها ووطنها وهي تغضّ النظر عن ميليشيات عسكرية تابعة لها أو قريبة منها لطائفية مثلا في حال العراق اليوم، مقابل رفضها ومحاربتها لأخرى أما لأنها من طائفة أخرى أو من قومية أخرى. وهنا بالضبط مكمن الخطر في مصداقية الدولة وتمثيلها لأبناء شعبها على كامل أراضيها.
من غير الممكن ونحن نتحدث عن ميليشيات عسكرية أن نصف بعضها بميليشيا قانونية وأخرى غير قانونية، لأن السلاح في الدول ومنها الديموقراطية يجب أن يكون حصرا بيد الدولة دون أية جهة أخرى، ولكن في الأنظمة الاستبداية والدكتاتورية فأن السلاح قد يكون بيد جهات أخرى كونها ستكون هي صاحبة " العنف الشرعي" وليس الدولة التي ستكون وقتها صاحبة "العنف غير الشرعي" كما في فترة نضال القوى السياسية العراقية التي تهيمن على المشهد السياسي اليوم ضد مجرمي البعث وآلتهم الهمجية عهد الدكتاتور صدام حسين.
على الرغم من بعض التصريحات التي أطلقها الحزب الحاكم متمثلة بزعيمه نوري المالكي حول عدم سماح "دولته" لأي جهة بالعبث بأمن الوطن عن طريق تشجيعها على تشكيل ميليشيات عسكرية، وعلى الرغم من أن "دولته" قد قام بضرب البعض منها كما سلفه "علاوي"، الا اننا نراه ولحسابات سياسية ضيقة قد سمح بل شجّع وموّل شخصيات خارجة عن القانون وأطلق سراحهم من السجون بعد أن كانوا متّهمين بالارهاب على تشكيل ميليشيات عسكرية أصبحت مخلب قط حزبه الحاكم في مواجهة مخالفيه وتهديدهم، أضافة الى أستخدام آخرين حتى في قمعه لتظاهرات شعبية مطلبية كتلك التي جرت بساحة التحرير في شباط 2011 .
اليوم والعراق يمر بأصعب ظرف سياسي وعسكري وأمني حيث قوى الارهاب ممثلة بتنظيم "داعش" الارهابي وحلفائه من المجرمين البعثيين وحواضنهم بأحتلالهم لمساحات واسعة من أرضنا، أثبتت "الدولة" التي يقودها المالكي من أنها في أضعف حالاتها، ليس لأحتلال هذه التنظيمات الارهابية مدن كبرى فقط، بل كونها "السلطة" أثبتت كذبها وفشلها في القضاء على هذه الميليشيات ومنها الشيعية ومحاباتها على حساب المليشيات السنّية. علما أن من حق المجتمع على الدولة في أن تأخذ "الدولة" دورها بالقضاء على كل أشكال الميليشيا ومصادرة أسلحتها بالطرق القانونية أو بالقوة العسكرية "العنف الشرعي" لان الدولة تتمثل اليوم بحكومة منتخبة دستوريا ووفق آليات "ديموقراطية". فهل قامت الحكومة المنتخبة بواجبها الدستوري هذا خدمة لأحلال السلم المجتمعي في البلد؟
لاشك أن الجهد الذي علينا جميعا بذله في محاربة الارهاب وخطره المحدّق بوطننا وشعبنا وليس "بالعملية السياسية" فقط كبير جدا وبحاجة في هذا الظرف السياسي المعقّد الى وحدة كل قوى الخير واصطفافهم وتسلّحهم باليقظة والحذر من الوقوع في مطبّ سعي هذه القوى الشيطانية الى تحويل الصراع الجاري الى صراع "شيعي سنّي". وفي نفس الوقت على السلطة أن تعمل على طمأنة جهات عديدة منها داخلية كشركائها في "العملية السياسية"، وأقليمية تلعب دورا لانستطيع أنكاره على رغم سلبيته لضعفنا وتبعيتنا لهذه الجهة أو تلك، وأخرى دولية نحتاجها جدا في هذا الظرف العصيب الذي نمرّبه ، من أنها تقف على مسافة واحدة من كل أشكال الميليشيات وذلك بأدانتها لها وسعيها على تفكيكها فهل سلطة المالكي قادرة على أنجاز هذا الامر الهام، وأن كانت قادرة فهل هي جادّة بالأمر؟
لقد أثبتت حكومة حزب الدعوة الحاكم بتجاهلها لأستعراضات عسكرية وبمختلف صنوف الأسلحة ومنها الثقيلة والمنهوبة من الجيش العراقي "كما الميليشيات السنّية" وبشكل واسع وكبير في قلب بغداد كالتي جرت قبل أيام من قبل "جيش المهدي" بأسمه الجديد "سرايا السلام"، من أنها تنظر الى الميليشيات غير القانونية بمنظارين أحدهما شيعي مقبول أو يمكن غضّ النظر عنه لأسباب عدّة لسنا في وارد مناقشتها هنا، والآخر سنّي غير مرغوب به ولايمكن غض النظر عنه ويجب محاربته لأنه خارج سياقات الدولة و جزء من الأرهاب المنفلت الذي يضرب بلدنا اليوم. علماً أن ميليشيات "سرايا السلام" وميليشيات "بدر" التي عادت الى الحياة بشكل "مفاجيء" بقيادة وزير النقل ورئيسها "هادي العامري" وعصابات "عصائب أهل الحق" التابعة للمالكي والتي يديرها "قيس الخزعلي" بعد أنشقاقها عن "جيش المهدي" هي كمثيلاتها السنّية، فهي خارج سياقات الدولة وجزء من الأرهاب كونها تحل محل الدولة في الحرب الدائرة اليوم. وصراع هذه الميليشيات فيما بينها سيزيد من الشرخ الموجود في المجتمع وسيطيل أمد هذه الحرب المجنونة والعبثية ليذهب ضحيتها عشرات أن لم يكن مئات الالاف من أبناء شعبنا الأبرياء عدا خسارة سنوات جديدة وثمينة من عمر الوطن المهدد بالتقسيم. ويضع الدولة العراقية بسلطتها الحالية أمام تساؤلات عديدة حول دورها بمحاربة الميليشيات والقضاء عليها طيلة السنوات الماضية وسبب فشلها أن كان ضعفا منها وهي كارثة بحد ذاتها، أو محاباتها والحفاظ عليها لأيام عصيبة كالتي نعيشها اليوم وهي أكبر من كارثة. وفي كلتا الحالتين فأن الدولة تثبت وأثبتت من جريان أحداث اليوم من أنها ليست ضعيفة فقط بل وصلت بضعفها الى مستويات كبيرة مما يجعلها غير مهيأة ولا قادرة على أدارة هذا الصراع الذي يجب أن يدار سياسيا وأمنيا أولا ثم عسكريا، كون السلطة الحالية قطعت كل الجسور مع غرمائها "شركائها في حكومة المحاصصة الكارثية" والذين يتحملون كما هي وزر ما يمرّ به العراق اليوم.
والآن دعونا نتخيل أقول نتخيل فقط لان الواقع سيكون كارثيا بلا شك، حول أن كان صراعا قد حدث قبل فترة مثلا أو سيحدث بين جيش المهدي الذي هاجم المالكي رئيسه "مقتدى الصدر" بشكل كبير كدعاية أنتخابية عبر وسائل الاعلام مرات عدة، وبين القوات العراقية التي يشرف عليها ويقودها القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع والداخلية والامن ورئيس العديد من الاجهزة الاستخبارية "الحاج ابو أسراء" في مدينة بغداد حيث معقل جيش المهدي، أو مع ميليشيا سنّية تملك كما جيش المهدي وغيره من الميليشيات الشيعية أسلحة بمستوى أسلحتهم وهي منهوبة من الدولة أيضا، وأستخدم فيه الطرفان كل ما في ترسانتهما من أسلحة، فماذا كانت وستكون النتيجة؟ أليس من الأفضل للأبتعاد عن مثل هذه السيناريوهات المرعبة كان بأخذ الدولة دورها الحقيقي في محاربة الميليشيات والقضاء عليها وأن لاتكون جزءا منها كما حالها وعصابات "عصائب أهل الحق".
أتمنى أن لايأتي ذلك اليوم الذي بسبب جرائم الحاكم الفاشل والطائفي المتسلط والمتعطش للسلطة رغم فشله الذريع خلال 9 سنوات في بناء دولة تحترم شعبها ويحترمه والباحث عن ولاية ثالثة، وحزبه حزب الدعوة الشيعي الحاكم وبقية أقطاب المحاصصة الطائفية والقومية تلك التي فشلت في أن تتوصل الى قاسم مشترك من أجل "شعبها" و"وطنها" بسبب طائفيتهم وقوميتهم وجشعهم ونهبهم المستمر لثروات شعبنا، في أن يجعلونا ...
نبكي كالثكالى عراقا لم يحافظوا ونحن معهم عليه كالرجال.
|