التقاعد حق مكتسب في جميع قوانين العالم ... ولم نسمع يوماً حقاً وصدقاً ان دولة ما قد الغت رواتب متقاعديها سواء من عموم الموظفين او من الموظفين ذوي الدرجات الخاصة، وعلى هذا يكون الغاء تقاعد الدرجات الخاصة اختراع عراقي بإمتياز... دون الالتفات إلى أية نتائج اجتماعية وأسرية وحتى وطنية مترتبة على ذلك... وإذا كان العراقيون الاوائل قد اخترعوا القانون لأول مرة في تاريخ البشرية متمثلاً في وثيقة اصلاحات اوركاجينو وقانون اورنمو وقانون لبت عشتار واخيراً شريعة حمورابي .. هذه الشرائع التي اذهلت العالم بسعيها لتحقيق العدالة بين البشر كما نص عليها صراحة في شريعة حمورابي ... فإننا نقول ... أن الحمد لله إن هؤلاء العراقيون القدماء لم يكونوا من احزاب الإسلام السياسي لأنهم لو كانوا كذلك لغيروا مجرى التاريخ القانوني لأغراض انتخابية وجعلوا من رجعية القانون على الماضي والحقوق المكتسبة اصلاً بدلاً من أن يكون استثناءاً كما هو الحال في جميع قوانين العالم اليوم وقد سبقتهم في ذلك الشريعة الاسلامية الغراء كما سيتبين لنا لاحقاً...
وإذا القينا نظرة عامة على كتب الفقه القانوني لوجدنا ان هذا الفقه قد اورد عدة تعريفات للحق المكتسب تدور جميعها حول فكرة جوهرية واحدة متفق عليه هي عدم المساس بالحق المكتسب وان اختلفوا في الأساس القانوني لعدم المساس بالحقوق المكتسبة وثباتها. وعلى هذا النحو فان هذا الأساس القانوني عند انصار الاتجاه الشخصي في الحق المكتسب هو الأخلاق التي تأبى ان تسترد ما تم اعطائه لفرد معين في فترة ما من الزمن بحيث اعتمد عليه في تنظيم اموره الحياتية ومعاملاته المدنية أو التجارية فضلاً عن حماية الفرد الذي هو من وجهة نظرهم النواة الاساسية للمجتمع وللتطور الاقتصادي لأن سلب الحق هو قرين لسلب الحرية الفردية. وعلى هذا النحو عرفه (الحق المكتسب) انصار الاتجاه الشخصي للحق، بأنه الحق الذي دخل ذمة الشخص نهائياً بحيث لا يمكن نقضه أو نزعه منه إلا برضاه. أو كما عرفه الفقيه مارلين بأنه: الحق الذي يدخل ذمة الشخص بشكل نهائي بحيث لا يمكن نزعه منه إلا برضاه. اما الاتجاه الموضوعي في الحق المكتسب فان اساس عدم المساس بالحقوق المكتسبة عنده هو مبدأ الامن الاجتماعي واستقرار المعاملات داخل المجتمع. وعلى هذا النحو عرفه انصار الاتجاه الموضوعي، بأنه: الحق الذي يملك صاحبه المطالبة به والدفاع عنه أمام القضاء. بينما ذهب اتجاه أخر إلى تعريفه بانه: الحق الذي يقوم على سند قانوني. كما عرف البعض بأنه الحق الذي لا يجوز للقاضي أن يمسه بسوء أو يسبله صاحبه بحجة تطبيق قانون مستجد. ان فكرة دوام الحقوق واستقرارها هو الذي قاد إلى قاعدة لا يكاد يخلو منها نظام قانوني ألا وهي قاعدة عدم رجعية القانون على الماضي التي هي ثمرة من ثمار الثورات الشعبية العارمة ضد السلطات الملكية المطلقة التي كانت تتجاوز على الحقوق المكتسبة لعموم الناس بإرادة ملكية شبهت بالإرادة الالهية في كثير من النظم المطلقة، واهم تلك الثورات هي الثورة الفرنسية التي جعلت من هذا المبدأ قاعدة دستورية. وحسب هذه القاعدة، لا يمكن لقاعدة قانونية جديدة ان تمحو بصفة تلقائية ما تم انتاجه من حقوق في إطار قاعدة قانونية سابقة. وعليه ليس للمشرع ثمة سلطة، كقاعدة عامة، لإعادة النظر في الحق الذي تم اكتسابه وفقاً لشروط مشروعيته المنصوص عليها قانوناً. وان فعل ذلك يكون قد مس بمتانة العلاقات الإجتماعية، لما فيه من اهدار للثقة بالقانون وتهديم لتصرفات الأشخاص التي تمت صحيحة وقت اكتسابها وإجرائها، فلا يطمئنوا إلى تصرفاتهم، ولا إلى ما اكتسبوه من حقوق. بينما يطبق القانون على الحالات التي تستجد بعد نفاذه لأن الافراد قد علموا بها وبنوا امورهم على اساس منها. وعدم الطمأنينة إلى القوانين وعدم الثقة فيها واحدة من أهم اسباب زعزعة الكيانات الاجتماعية والسخط الاجتماعي بل والثورات العامة، وعلى هذا النحو اعتبر الفقيه جارلس دي فيشر ضمان استمرار الحقوق من أولويات النظام القانوني أياً كان. وفي ضوء ما تقدم فإن من يشغل منصب بدرجة خاصة بعد صدور القانون فانه يسري عليه القانون الجديد وهذا هو الاقرب للعدالة ومعطياتها الإنسانية... قال تعالى في محكم كتابه العزيز﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ فمن فعلها قبل نزول الآية الكريمة فإن الحقوق الزوجية والنسب والميراث وغيرها من حقوق لاتتأثر وتبقى مستمرة لأصحابها، اما من يفعلها بعد نزول الآية فإن الحكم مختلف، والله أعلم. ان ثبات القانون واستقرار المعاملات التي تمت في ظله تكرس ابتداءاً في شريعة حمورابي فقد تمت الإشارة إلى هذه الشريعة كأول مثال لمفهومٍ قانوني يشير إلى أن بعض القوانين ضرورية وأساسية ومستمرة حتى أنها تتخطى قدرة الملوك على تغييرها. وبنقش هذه القوانين على الحجر فإنها تبقى دائمة، وبهذا يتأكد ويحيا مفهوم الأمن الاجتماعي واستقرار المعاملات في المجتمع والذي تم تكريسه في الأنظمة القانونية الحديثة وأعطت لمصطلح (منقوش على الحجر) ماهيته في الأنظمة الحالية من خلال مبدأ عدم رجعية القانون على الماضي وإحترام الحقوق المكتسبة.
|