يعيش المثقف العراقي حالة اغتراب حادة، ليس فقط اغتراباً جغرافياً بل لغوياً ايضاً. فاللغة التي يتحدث بها اليوم لا تنسجم مع العالم العنفي الذي يغرق فيه. ثمّة خطاب عنفي رهيب هيمن اليوم على ارادة المجتمع العراقي وصارت الخيانة والعمالة والتآمر اهم مفردات ذلك الخطاب. يقف المثقف حائراً في ايجاد الوسائل لإستخدام اللغة بطريقة تحاول ترشيد ذلك العنف والتقليل من آثاره واضراره، حتى اصبح في عزلة داخل اللغة نفسها ولم يعد قادراً على التواصل مع الجمهور.
قد يشبه هذا الإغتراب الإغتراب الذي مرّ به مثقف الحداثة الطليعي قبل نحره على يد جموع الشعبوية في بلدان الغرب. لقد عملت تلك الجموع المدفوعة بحماسة الشعارات والمهووسة بجنون احزاب اليمين واليسار على محاربة فكر الطليعة بوصفها فكراً رومانسياً مترفاً لا يلبي حاجات الناس ولا ينتمي الى زمانهم. نسي هؤلاء بأن الطليعة، ذلك المصطلح الحداثوي المأخوذ من العسكر الفرنسيين والذي يُطلَق على مَن هم في مقدمة القوات دائماً، وظيفتها اساساً صناعة هوية اممها المستقبلية. ومثل اي تشكيل عسكري اعتيادي، تتحرك النخبة الطليعية من خلال تكتيكاتها ومناوراتها باتجاه تشكيل هوية جمعية حداثوية تدفع بها مجتمعاتها الى الامام. هذا ما يسميها لينين "بالقوة التكتيكية" للنخبة والتي عرفت الشيوعية كيف توظّفها في دفع الزخم الثوري الشيوعي قبل ان تقتلها "الواقعية الاشتراكية" لمفوّضي ستالين الثقافيين.
ليست فقط الستالينية الروسية مَن حاربت الطليعة الحداثوية، بل حتى في الولايات المتحدة الامريكية حين هاجرت الحداثة اليها مثخّنةً بجراح النازيين والذين كانوا هم ايضاً يرون في فكر الحداثة مؤامرةً على العرق الالماني النبيل ومحاولةً لتجميل "الفكر المنحط" بفنه وقيمه المنحلّة. فهذا سيناتور ولاية مشيغان جورج دونديرو صاحب اشهر خطاب تاريخي أُلقِي في الكونغرس عام ١٩٤٩ يُجرّم فيه الحداثة ويعتبرها سلاحاً شيوعياً روسياً لتدمير القيم الرأسمالية في المجتمع الامريكي. وياليتها انتهت بالخطابات والتصريحات، بل يؤسّس السيناتور الامريكي المتشدد جو مكارثي "لجنة الكونغرس في البحث عن الانشطة اللامريكية"، تلك اللجنة التي ضيّقت الخناق على المثقفين والفنانين الامريكيين من خلال حملاتها واتهاماتها وقراراتها التي ارهبت العديد منهم بحجة محاربة الشيوعية المتسللة عبر افكار وفنون الحداثة. صار مكارثي رمزاً للهوس وامسى مصطلح "المكارثية" شائعاً في الخطاب السياسي الامريكي والعالمي للتعبير عن حالات تقييد الحريات بسبب الاوهام فقط.
وصار المثقف الطليعي متهماً في كل بلدان العالم ولعل اطرف ما في الموضوع هو ان الوطنيين الامريكيين اعتبروا ذلك المثقف عميلاً للشيوعية الروسية، في حين اتهمه الشيوعيون بأنه اداة للرأسمالية العفنة. اما النازية الالمانية فكانت تراه نتاج اليهودية المدعومة من امريكا وروسيا كليهما. يا لها من مفارقة مضحكة ذبحت الحداثة ونخبتها الطليعية بسكين الخيانة والعمالة، لا لشيء إلاّ لأنهم تحدثوا بلغة غريبة لا يستسيغها العوام، فعاشوا في عزلة عن مجتمعهم، هم ولغتهم ونتاجهم وادبهم. تقول الاديبة الامريكية جيرترود شتاين ان المجتمع لا يقبل الحداثة بل يقبل فقط من يستنشقون افكارهم من المتاحف و"هكذا كان جيمس جويس مقبولاً عندهم وانا لا، اتكأ هو على الماضي، اما انا فكان التجديد والاختلاف سمات جوهرية في اعمالي".*
ما اشبه اليوم بالامس، فالخطاب العقلاني الذي يتبناه المثقف العراقي غريب عن خطاب الجموع. خطاب يحاول تفكيك الازمة وتحليل اسبابها ومبرراتها لإيجاد الحلول المناسبة وانهاء حالة الانقسام والتشرذم. كل هذا من اجل تعزيز الوحدة وتقوية حس الانتماء للوطن الواحد كهوية واحدة جامعة بعيداً عن الهويات الفرعية المتصارعة على ترسبات الماضي. وهذا ما لا يستسيغه الجمهور الآن ويرى فيه ترفاً ورومانسية لا يلبي انفعالهم وغضبهم من "مؤامرات الاعداء" وسلوكياتهم. "هذا ليس وقت الفلسفة، نحن في معركة مصير"، تحت هذا الشعار المكارثي تحاصر الجموع نخبتهم المثقفة وتطالبهم بلبس الخاكي والانضمام الى خنادقهم ولو بالكلمات والمقالات.
جنون طاغي وخطاب عقيم من نخبة تحاول عبثاً معالجة ذلك الجنون. نخبة تعيش إغتراباً شديداً وسط "فائض بشري" وصل اعلى مناسيبه وصار الموت وحده سبيلاً لمعالجته.
* كتاب الحداثة (باللغة الانكليزية) لكريس رودريغز ... ص ١١٠
|