رمضان وهموم هذا الزمان...

في اليوم الأول من رمضان يحار المرء ماذا يكتب على حافات الحرب الأهلية . على حافات الغربة .. وماذا يقول ؟.
يأتي رمضان هذا العام وقد خلا من المسرّات الصغار . من دون نافذة أمل ، ولا قناديل مضاءة ، ولا خبر مبهج . تقاليده الشعبية تكاد تندثر . خفتت أصداؤها . حتى أغاني أطفاله مثقلة بنبرة مهمومة . كانوا يستمعون إليها في سعادة وانبهار . أصوات المدافع الثقيلة تطغى على مدفع الإفطار . مائدة الإفطار تطبخ على وهج مواقد من نار الخيبات وسياط الشمس الملتهبة تهوي بسياطها على الظهور . أطفال حفاة يسيرون على حصاة مدبّبة كالزجاج . كل أم حزينة تبكي بالدموع الغزار وتصرخ من أعماقها بما يشبه نواح الندابات ، والصائمون يبلّلون ريقهم بشربة من الماء الآسن فلا تبتلّ العروق . 
يأتي رمضان هذا العام عاتباً غاضباً ، خاليا من اللهفة ، لا يُطفئ ظمأ ولا يشبع جوعاً . مثلما كان في الأزمنة الخوالي حافلاً بالحكايات الحلوة والقصص المشوقة حتى نجمة الفجر . إننا نتحرّق بشهية لممارسة أشواقنا . إننا نختنق في نوبة يأس وكآبة وملل . كلما لاح في عيوننا شعاع نور طوّقنا الظلام . وكلما تشبّثنا بالأمل وجدنا أنفسنا نغرق في صمت المآتم ووحشة القبور . قدر العراقيّ أن يكون لاجئاً . لا مكان لصور الشهداء في مخيماتهم . لا مجال للذكريات والشحنات العاطفية . كان العراقي يفرح من كل قلبه حين يطعم جاره من مائدة الإفطار . اليوم كثير من العائلات تقيم في الإسطبلات لا تحميها سلطة ولا تشملها رحمة . عندما لا تجد إلا قبضة من تراب في يديك يصبح الوطن لديك سراباً في التيه . 
يأتي رمضان والعراقيّ ما يزال مرتحلاً بعمره ، مبثوثاً في الريح . تائهاً بين الأوهام والظلام . خيمته جواز سفره . حاملاً فراشه فوق رأسه ، ووطنه في حقائب صغيرة ، لا يعرف من أين .. ولا يعرف إلى أين ؟. فأين يمضي وكل المدن انفرطت من يديه ؟ وأين يمضي ولا بيت يأوي إليه ؟.
يوماً كنّا نخبّى أشواقنا في سلال الورد وندسّها في موجة عابرة .. ويوماً كان العراقيون يحيطون درعاً من الفولاذ بواحد من أجمل الأوطان وأحلاها . ثم أصبحت المسافات بينهم بعيدة . فإذا العراقيّ المقيم في هذا الحيّ يتنفس ريح أخيه العراقي القادمة من الحيّ المجاور العابرة للطوائف والأسلاك الشائكة .. فمن أين نشترع مواسم سعادة وفرح ، ونحن نجمع نثار صور من ذكريات حزينة ، ممزقة ؟!. 
يأتي رمضان هذا العام مغترباً موحشاً بلا حنين إلى عشيّات السمر ، ولا شوق إلى دامات الطين المكللة بدخان التنانير عندما تنحدر الشمس إلى مغيب . والعراقيّ رحالة جوّال . مقيم مسافر . لاجئ مهاجر . يغصّ بلقمة يابسة مريرة منقوعة بالذل في ذروة العذاب الإنساني لكنه لا يملّ الانتظار ، فتظل عيناه ترقبان باللهفة باباً قد يطرقه حبيب يأتي ، أو غائب ربما يعود .
يأتي رمضان هذا العام ومصائر الأوطان تندفع في عملية انتحارية في وداع أخير . والخريطة تناوشتها المشارط والمقصات منادية مستصرخة . مدن من خرائب وأطلال تدعوك للبكاء ، وشعب تحول إلى قوافل من اللاجئين في كل بقعة وزاوية وركن . يتوارى في الكهوف ويتحصن في المخيمات . تبددت جميع أحلامنا . واستحالت أيامنا ركضاً وراء سراب . جنازة هنا وجنازة هناك . نحن نختنق .