التفكيك بين تقييم الشخص وتقييم عمله

روى لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطينا فيه قاعدة من قواعد السلوك الاجتماعي والتعامل مع الآخرين، ويعالج لنا مشكلة تمزّق المجتمع وتغذي البغضاء بين أبنائه.

فمن خطبة له (عليه السلام) قال (واعلم أنّ لكل ظاهرٍ باطناً على مثاله، فمن طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه، وقد قال الرسول الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) ((إنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويحبّ العمل ويبغض بدنه)).

واعلم أنّ لكل عملٍ نباتاً، وكل نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلة، فما طاب سقيُه، طاب غرسُه وحلَت ثمرته، وما خبث سقيُه، خبث غرسُه وأمّرت ثمرته).([2])

وورد هذا الحديث في رواية أوردها الشيخ الطوسي (قدس سره) عن الإمام الباقر (عليه السلام) وفيها قوله (أما علمت أنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحب عمله).([3])

أقول: يلاحظ فرق بين النصين في الفقرة الثانية وهو الشخص المبغوض، إذ وصفه نص نهج البلاغة بالبدن ونص الأمالي بالعبد، وبرأيي القاصر فإن نص الشريف الرضي في نهج البلاغة هو الأصح، والوجه في ذلك يظهر من خلال الالتفات إلى أمور:

1-  إنّ رواية نهج البلاغة وصفت الشخص المبغوض بالبدن ولم تصفه بالعبد فهو كسائر الأبدان والأجساد المادية الخالية من الصفة الإنسانية الحقيقية وهي العبودية لله تعالى (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان/44) فهو لا يستحق أن يوصف بالعبودية التي هي أسمى صفة للإنسان، وبها كرّم الله تعالى نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله) حين أمر بذكره في تشهّد وتسليم الصلاة بالعبودية ثمّ الرسالة (وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله) أمّا نصّ الأمالي فقد وصف الشخص المبغوض بالعبد وهو لا يستحقه.

2-  إن نص نهج البلاغة استعمل لطيب الباطن والظاهر (مَنْ) وهي تستعمل للعاقل بينما استعمل (ما) للمبغوض وهي تُستعمل لغير العاقل فيناسبه لفظ البدن غير العاقل لا العبد الذي يحمل تمام العقل.

3-  إن نص نهج البلاغة قدّم المحبوب بالذكر في كلا الفقرتين (حب العبد وحب العمل) وهو الأليق، بينما قدّم النص الثاني الشخص وإن كان مبغوضاً.

وعلى أي حال فإن معنى كلامه (عليه السلام) باختصار:

إن ما يصدر من الإنسان من تصرفات وأفعال ومواقف إنما يعكس حقيقة هذا الشخص وباطنه وذاته، قال (عليه السلام) في كلمة أخرى (ما أضمر أحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه) ([4]) وكما قيل في المثل المعروف (وكل إناء بالذي فيه ينضح).

وقد أعطى (عليه السلام) في ذيل كلامه مثالاً لهذه المعادلة ووسيلة الوصول إلى الباطن الطيب، فإن العمل كالنبات فيه طيب حلو وفيه خبيث مر، فإذا كان الماء الذي يسقي الزرع والأرض طيباً كان الزرع طيباً حلواً، وإلاّ كان مراً خبيثاً، وهكذا النفوس إذا سُقيت من معينٍ نقي للمعرفة والعلم والأخلاق كانت صالحة طيبة، وإلاّ فستكون خبيثة.

وبالعودة إلى الحديث النبوي الشريف، فإنه تستفاد منه قاعدة لتمييز الإنسان الصالح من الفاسد، لأنّ الأول لا يترشح منه إلاّ فعل الخير بعكس الثاني، فيُقيّم الإنسان وتعرف حقيقته من خلال الحكم على أفعاله.

لكن –وكما قيل- فإنّ لكل قاعدة شواذاً، فإنّ الإنسان الصالح –عدا المعصوم (عليه السلام)- قد يصدر منه فعل سيء يبغضه الله تعالى إما لغفلة، أو لضعف في المناعة والعصمة والإرادة، أو لغلبة الهوى والشهوة وتزيين الشيطان أو لسوء تقدير، أو لتأثّر بأقران سيئين، أو لضعف أمام تهديدات وإغراءات ونحوها من أسباب السقوط في المعاصي.

 

وإن الشخص الفاسد قد يقوم بفعل محبوب لله تعالى كمساعدة محتاج أو رعاية يتيم أو قضاء حاجة إنسان آخر ونحوها، لتأثره بجو إنساني وعاطفي عام، أو لبقية حياة في ضميره أو بتأثير إنسان صالح يحبّه وهكذا.

وبهذا نحلُّ الإشكال الذي قيل على سياق الحديث، وحاصله: إنّ الحديث النبوي الشريف ينافي الفقرة السابقة عليه وهو ينقض المطابقة بين الظاهر والباطن التي ذكرها أمير المؤمنين (عليه السلام): وملخص الجواب: إنّ هذا الإشكال مبني على كون الحديث النبوي شاهداً على ما أورده من القاعدة، فيُجاب الإشكال بأنّ الحديث ذكر للإشارة إلى الاستثناء من القاعدة، وليس استدلالاً على نفس القاعدة.

وقيل في توجيهه شيء آخر ذكره العلاّمة السيّد حبيب الله الخوئي شارح نهج البلاغة، قال (قدس سره): ((وإنما الإشكال في ارتباط هذا الكلام لسابقه و في استشهاد الامام عليه السّلام به مع أنّه لا مناسبة بينهما ظاهرا ، و ليس للاستشهاد به وجه ظاهر ، بل منافاته لما مرّ أظهر من المناسبة كما هو غير خفيّ، إذ لازم محبّة اللَّه للعبد كون العبد طيّبا ، و لازم بغضه لعمله كون العمل خبيثا فلم يكن الظّاهر موافقا للباطن ، فينافي قوله عليه السّلام: فما خبث ظاهره خبث باطنه.

وكذلك مقتضى بغض اللَّه سبحانه لبدن الكافر كونه خبيثا ، و حبّه لعمله كون عمله طيّبا ففيه أيضا مخالفة الظّاهر للباطن ، فينافي قوله : فما طاب ظاهره طاب باطنه.

والذي سنح لي في وجه الارتباط و حلّ الإشكال بعد التّروي و صرف الهمّة إلى حلّه أيّاما و الاستمداد من جدّي أمير المؤمنين عليه و آله سلام اللَّه ربّ العالمين هو أنّه لمّا ذكر أنّ ما هو طيّب الظّاهر طيّب الباطن و ما هو خبيث الظّاهر خبيث الباطن ، عقّبه بهذا الحديث النّبوي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم تنبيها و إيقاظا للسّامعين بأنّ العبد قد يكون نفسه محبوبا و عمله مبغوضا ، و قد يكون بالعكس كما أفصح عنه الرّسول الصّادق المصدّق.

فاللاّزم له إذا كان محبوب الذّات للَّه سبحانه و مبغوض العمل أن يجدَّ في تحبيب عمله إليه تعالى حتّى يوافق نفسه عمله في المحبوبيّة ، و إذا كان محبوب العمل مبغوض البدن أي الذّات أن يجدّ في تحبيب ذاته إليه كي يوافق عمله نفسه.

والغرض بذلك الحثّ على تطبيق الظّاهر للباطن في الأوّل و تطبيق الباطن للظّاهر في الثّاني في المحبوبيّة حتى يكونا طيّبين ، و يفاز إلى النّعيم الدّائم و الفوز الأبدي، و لا يعكس حتّى يكونا خبيثين مبغوضين له تعالى، فيقع في العذاب الأليم و الخزي العظيم ، و قد زلّت في هذا المقام أقدام الشّراح و المحشّين).([5])

أقول: هذا المعنى صحيح في نفسه، وإن كان يحتاج إلى مقدمات لاستظهاره من الحديث الشريف وحل الإشكال به.

ونذكر هنا وجوهاً أخرى بحسب فهمنا القاصر لسبب إيراد أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الحديث في ذيل كلامه المذكور وهي كالنتائج والثمرات المستفادة من هذا الحديث الشريف، ومنها:

1-  أراد (عليه السلام) أن يمنع من اعتماد الشخص على هذه القاعدة فيعتقد أنّه ما دام مؤمناً فإنه لا يصدر منه إلاّ الفعل الحسن فيأخذه العجب ويغفل عن مراقبة نفسه ولا يحسب لاحتمال ضعف النفس وغواية الشيطان، فنبهه الإمام إلى إمكان الوقوع في الفعل المبغوض مهما كانت درجة إيمانه –عدا المعصومين (عليه السلام)- فلا يركن إلى نفسه.

وكذا زرع الأمل في نفوس السيئين بأنّهم مهما كانت درجة انحطاطهم فإنّه يمكن أن يصدر منهم الفعل الحسن فلا يقنطوا ولا ييأسوا من رحمة الله تعالى ولطفه وعليهم أن يسعوا للقيام بالفعل الحسن وإن كانوا فاسقين، قال تعالى (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) (الزمر/53).

2-  إن هذا التطابق بين الظاهر والباطن لابد أن يتحقق ويكون تاماً لأنّه غير قابل للتفكيك لأن الظاهر صورة للباطن، كالمطابقة بين الصورة في المرآة وصاحبها، حيث لا يتصور عدم المطابقة بينهما، فإذا حصل شيء على خلاف هذه القاعدة، فإنه يُعالج بما يعيد فاعله إلى هذه القاعدة.

فالمؤمن إذا صدر منه فعل مبغوض إلى الله تعالى فتح له باب التوبة والاستغفار وطلب العفو حتى يمحو ذلك الخطأ ويعود إلى المسار الصحيح، وقد يحتاج الأمر إلى أن يُبتلى ويعاقب بمرض أو مصيبة أو همٍّ أو خسارة وغيرها مما ذُكر في كفارات الذنوب، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورة/30).

 

والكافر الذي ليس له في الآخرة من خلاق، إذا صدر منه فعل يحبّه الله تعالى أعطى جزاءه في الدنيا مما يحبّه ويرغب فيه ويعمل من أجله لكي لا يبقى له استحقاق عند الله تعالى ويعود التطابق بين الظاهر والباطن.

لأنّ الحب والبغض بالنسبة إلى الله تعالى ليس بالمعنى المعروف عندنا نحن البشر لتنزهه سبحانه عن ذلك، وإنما يعني آثارهما من الثواب والعقاب وهذا معنى صحيح أكّدته روايات كثيرة.

3-  إن ذكر الحديث النبوي الشريف للمنع من الحكم على شخص ما بأنّه صالح أو غيره، ومحبوب عند الله تعالى أو مبغوض من فعل واحد أو فعلين بالاستناد إلى هذه القاعدة، بأن يقال: إنّه لو كان صالحاً لما صدر منه الفعل السيء، ولو كان مبغوضاً عند الله لما صدر منه الفعل المحبوب، فأتى (عليه السلام) بالحديث النبوي ليفيد أنّه قد يصدر منه الفعل السيئ وهو محبوب عند الله تعالى، وقد يقوم بالفعل المحبوب وهو مبغوض عند الله تعالى.

نعم يمكن الحكم عليه إذا تحوّلت أفعاله إلى سيرة مستمرة وغالبة عليه، فإنها تكشف عن ملكة راسخة بهذا الاتجاه أو ذاك، وهذا ما ذكره الفقهاء في معنى العدالة من انها ملكة نفسية راسخة تُثمر استقامة على جادة الشريعة.

4-  إنّ العبد مهما تظاهر على خلاف باطنه فإنه سيعود إليه وتنكشف حقيقته وتتحقق المطابقة بين الظاهر والباطن، فقد يصدر من الشخص السيئ فعل حسن بتصنع ورياء وخداع، ويصدر من الإنسان الصالح فعل سيء، لكن كل واحد منهما لابد أن يعود في النهاية والخاتمة إلى ما يطابق باطنه مهما طال الزمن، قال تعالى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء/84).

والتاريخ حافل بأسماء أشخاص كانت حياتهم مملوءة بالفسق والابتعاد عن الله تعالى لكنّهم خُتم لهم بالخير لأنّ أصلهم ومعدنهم كان كذلك كبشر الحافي والحر الرياحي مثلاً، ويوجد أمثلة كثيرة للعكس من ذلك كإبليس اللعين الذي كان مع الملائكة وعبد الله تعالى ستة آلاف سنة ثمّ خُتم له بالشقاء، وهذا لا ينافي الاختيار لأنّ كلاً منهما باختياره فعل ما يوجب له تلك الخاتمة.

5-  إنّه (عليه السلام) إنما ذكر الحديث لمعالجة مشكلة موجودة في المجتمع تحكم العلاقات بين الناس ومنشأها عدم التفكيك بين تقييم الشخص وتقييم فعله أي تطبيق الملازمة المذكورة في كلام الإمام (عليه السلام) من دون الالتفات إلى الاستثناء، والمشكلة هي إن أحدنا إذا اختلف مع شخص آخر أو لم يرتضِ فعلاً من أفعاله فإنه يرفضه جملة وتفصيلا ويعاديه ويشنّع عليه.

فالمشكلة التي نعاني منها وتمزّق وحدة المجتمع هي التوسع من رفض الفعل إلى رفض نفس الفاعل، وبدل الاعتراض على الفعل نفسه كحاله يتحوّل إلى رفض الشخص كلياً وتسقيطه وتفسيقه وإلغائه ولو كان إنساناً مؤمناً ملتزماً بالخط العام للشريعة، وفي هذا خروج عن القواعد الشرعية وتجاوز للحدود (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (الطلاق/1) (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة/229).

وبالمقابل فإذا أحسن له شخص بفعل ما فإنّه يتحوّل عنده إلى إنسان محبوب وإن كان معروفاً بابتعاده عن الشريعة، فالإمام يدعو إلى التفكيك بين ذات الشخص وفعله وعرض كل منهما على ميزان التقييم بمعزل عن الآخر، فإذا كانت ذاته وباطنه صالحة فلا يجوز لك تسقيطه في المجتمع لموقف استنكرته منه، أو أخطأ فيه فإنّ المؤمن قد يقع في الخطأ والخطيئة ثم يتوب ويصلح شأنه ويعود قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف/201) فلا يجوز انتهاك حرمة المؤمن لفعل سيء صدر منه.

هذه مشكلة مهمة نعاني منها يعالجها الإمام (عليه السلام) بالالتفات إلى هذا الحديث الشريف، فلتكن عندنا رويّة وحكمة في تعاملنا مع الآخرين، ولا نتورط أمام الله تعالى في تسقيط الآخرين ورفضهم والتشهير بهم لموقف اختلفنا فيه معهم وهذا الدرس الذي أردت بيانه واستفادته من الحديث النبوي الشريف.

وقد شهدنا في شهري محرم وصفر الحاليين تسقيطاً وتشهيراً من البعض لأنهم لم يوافقونا على بعض المواقف التي اتخذناها ونعتقد أن فيها رضا الله تعالى وصلاح الأمة، وقد أصبحت هذه الحالة السيئة منتشرة بكل أسف والمفروض بمن يعمل وفق تعاليم المعصومين (عليهم السلام) أن يفكّك بين الفعل وذات فاعله حتى لو اعتقد أن ما صدر منه كان سيئاً.

ولا تفوتني الإشارة إلى أنَّ المعروف والمتداول إن الظاهر انعكاس للباطن، وإن الباطن هو الأصل والظاهر مظهر له وكاشف عنه، لكن لا يبعد أن يستظهر العكس من الخطبة الشريفة لقوله (عليه السلام) (واعلم أن لكل ظاهرٍ باطناً على مثاله) أي أن الباطن يتشكل وفق الأفعال التي تصدر من العبد، فإن الشخص صاحب الباطن السيء يستطيع أن يتكلّف القيام بأفعال صالحة وهذا يغيّر باطنه تدريجياً إلى الصلاح وإن كان ليس كذلك قبل ذلك، وبالعكس فقد يكون له باطن صالح لكن قام بأفعال سيئة من دون أن يتوب ويستغفر ويندم فيفسد باطنه.

وهذا معنى صحيح وموافق للروايات التي مضمونها: إذا أذنب العبد صارت في قلبه نكتة سوداء، فإذا لم يتب وأذنب ثانياً صارت في قلبه نكتة ثانية وهكذا حتى يسوّد القلب ويموت فلا يرجى منه الخير والعياذ بالله تعالى.

 

([1]) حديث سماحة المرجع الديني سماحة الشيخ محمد اليعقوبي في بحثه الشريف يوم الأحد 23 صفر 1434 المصادف 6/1/2013.

([2]) نهج البلاغة، الخطبة (154) في فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، أوّلها ((وناظر قلب اللبيب)).

([3]) أمالي الطوسي: 616، الجزء الرابع عشر في أخبار إبراهيم الأحمري.