حكومات الإنقاذ.. تأريخ امريكي لفرض العملاء على الحكومات المنتخبة |
موقف الأمريكان من العراق: الحرامي يكولوله بوك المثل العراقي القائل: "للحرامي يكولوله بوك ولابو البيت يكولولة دير بالك"، خير ما يشرح الخط العام للسياسة الأمريكية وموقفها بين العراق والإرهاب. فهم يدعمون الحرامي بكل طاقاتهم من جهة، ثم يقولون للعراق "دير بالك" من اجل تبرئة الذمة.. وإبقاء العلاقة مع المسروق من أجل دعم الحرامي إن تورط في أزمة، وأن تتم عملية السطو بشكل مغطى، وبأقل ما يمكن من الضجيج. أميركا وأنواع الحكومات الثلاثة إذا ألقينا نظرة سريعة على كتاب "قتل الأمل" لـ "وليام بلوم" الذي يقدم مسحاً شاملاً للتدخل الأمريكي في العالم لما بعد الحرب العالمية الثانية، يمكننا تقسيم حكومات العالم الثالث حسب التعامل الأمريكي معها إلى ثلاث أقسام واضحة، رغم أن مثل هذه التقسيمات اعتباطية الحدود ومختلطة: مثال: مصر خير مثال على النوع الأخير موقف أميركا من حكومة مصر – مرسي المنتخب ديمقراطياً، وحكومة الإنقلاب عليه – السيسي، والأخيرة حكومة إسرائيلية خالصة وبدون أية رتوش، ومواقفها أكثر صراحة من مواقف مبارك نفسه في إسرائيليتها وتبنيها المطلق لسياسة السوق الحر والإنفتاح التام ومعاداة الفلسطينيين صراحة، ومن المستحيل ان تقف الولايات المتحدة ضد مثل هذه الحكومة، ورغم ذلك فقد ادعت ذلك لغرضين، الأول لكي لا تسبب لنفسها سمعة من يقف مع الحكومات العسكرية الإنقلابية ضد التي أتت بأصوات الناخبين، والثاني أن تبعد عن حكومة السيسي الموالية لها السمعة السيئة التي يراها الشعب في الحكومات العميلة أو الصديقة لأميركا. حكومات الوسط تحفر قبرها بنفسها إن هدف السياسة الأمريكية النهائي بالنسبة للحكومة الوسطية هو إزاحتها، تماماً مثلما هو هدفها مع الحكومات الصريحة العداء للموقف الأمريكي، إلا أن الأسلوب مختلف فهو أقل علانية وأكثر بطأً. أما سياستها على المدى القصير فتتمثل بدفع تلك الحكومة المنتخبة إلى تقديم أكبر قدر ممكن من التنازلات وتوقيع الإتفاقات وتحضير الجو في البلاد للحكومة النهائية التي ترتضيها، فتخفف بعض الإحراج عن تلك الحكومة (تماماً كما فعلت مع السادات حين وقع ما سهل على عميل اسرائيل المباشر حسني مبارك اتباع سياسة إسرائيلية كاملة دون حرج كبير، باعتبار أنه لم يكن من بدأها)، وتحقق في نفس الوقت أكبر قدر من المكاسب. وكذلك فإن تلك التنازلات تضعف موقف الحكومة ورئيسها الذي سيفقد بعض شعبيته ويكون الناس مستعدين للتخلي عنه حين يأتي موعد الضربة الأمريكية القاضية لإستبداله بالعميل المباشر الأنسب، وهكذا تسهم تلك الحكومة بحفر قبرها بيدها تحت الضغط الأمريكي. أهم الطرق لإسقاطها: حقن الحكومة بالعملاء والعفو العام إن أكثر الأسلحة الأمريكية شيوعاً في دفع الأنظمة الوسطية لحفر قبرها بيدها، هو العمل على حقن الحكومة (المنتخبة) بالعملاء من جهة، ودفعها إلى إصدار عفو عام عن مجرميها من الجهة الأخرى، لكي يعاد استخدامهم ضدها. وهو الأسلوب الذي تمت ممارسته بالضد من المالكي منذ توليه السلطة، ولم يقاوم ذلك كما يبدو لتصوره بأنه سوف يستطيع إقناع أميركا بأنه سيرضيها برعاية مصالحها وتنفيذ مطالبها. وكثيراً ما تكتشف الحكومة الضحية الخدعة، لكنها تجد نفسها محاصرة ولم يترك أمامها منفذ سوى الإنتحار أو القبول، فتقبل خادعة نفسها بأمل في تغير السياسة الأمريكية، أو حدوث شيء ما. ولقد برهن التاريخ أن هذه الآمال أوهام لا اساس لها، وأن الحكومات الوسطية كانت دائماً الضحايا الأسهل والأكثر ضماناً للسقوط، فقد تمكنت بعض الحكومات النوع الثاني التي رفضت أية علاقة مع أميركا وأغلقت سفارتها، من الصمود أحياناً، رغم الصعوبات، بينما تسقط الحكومات الوسطية دائماً وتسلم السلطة الى حكومة عميلة استفادت أميركا من تساهل الحكومة الوسطية واتفاقاتها معها، في تحضيرها ودعمها ثم تنصيبها في اللحظة المناسبة، مكان الحكومة التي عقدت معها "الصداقة". خطر الوقوف في الوسط يعرض المالكي نفسه إلى خطر كبير بوقوفه في وسط المسافة محاولاً إرضاء كل من الشعب العراقي من جهة وأعدائه الأمريكان والإسرائيليين وذيولهم من جهة أخرى. وأكبر نقطة ضعف دفعت بالمالكي إلى هذا الموقف الحرج، هو انه أسير إدمانه التام على السلطة واستعداده لركوب كل المخاطر والتضحيات من أجلها، وهو ما يجعل موقفه شديد الضعف ومكشوفاً للإبتزاز. ولم تفوت أميركا أو كردستان أية فرصة للإستفادة منه، فربحت عشرات المليارات من النفط والكثير من الأراضي التي احتلتها، وكذلك بقية خندق أميركا وإسرائيل الذين ترك لهم المجال لاختراق العراق إلى أعمق نقطة ممكنة ووضع العملاء في أعلى المناصب العسكرية وفي أهم المراكز الحساسة اقتصادياً وسياسياً. أما الشعب فلم يكسب من هذا الموقف الوسطي الكثير من الضوضاء والشعارات الرنانة مثل "ولي الدم". لكن عدا ذلك يبقى أهم مكسب تحقق للشعب هو تأخر الإستسلام الرسمي والسريع للمخطط الأمريكي الإسرائيلي للعراق والذي يهدف إلى جعله هراوة أخرى من هراواتها في المنطقة ومركزاً لاستخراج النفط وتخريج الإرهابيين لضرب الشعوب التي لم تسقط تحت مخالبهم بشكل كامل بعد. ولهذا السبب بالذات ستعمل أميركا كما هو معتاد، على استبدال الحكومة الوسطية المتساهلة بأخرى عميلة لها. لنأخذ مثالا من التاريخ القريب... نيكاراغوا في كتابه "قتل الأمل"، يكتب وليام بلوم (ص 291): في عام 1978 وقد اقترب نظام (الدكتاتور الصديق لأميركا في نيكاراغوا) سوموزا من الإنهيار، أعطى كارتر الإذن للـ "سي آي أي" بتقديم دعم سري للإعلام والنقابات في نيكاراغوا بهدف خلق بديل "معتدل" لحكومة الساندنيستا (نيوزويك -8 نوفمبر 1982). ولنفس الهدف كان فريق من المفاوضين الأمريكان يجتمعون مع منافسين لسوموزا من غير اليساريين. وقال هؤلاء بعد مغادرتهم المفاوضات بأن مفهوم الإدارة الأمريكية للـ "إعتدال" هو "إشراك حزب سوموزا في الحكومة القادمة، وعدم المساس بهيكل السوموزية الفاسدة، وبضمنها "الحرس القومي"، ولكن ضمن شكل معين آخر." وينقل البروفسور نعوم جومسكي رأي فايرون فيكي مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الدول الأمريكية حول غرض الإدارة الأمريكية الرئيسي من سياستها في نيكاراغوا ومفاوضاتها مع السانديستا. قال فيكي أن “المفاوضات كانت مشروطة بتسليم قوات ساندنيستا السلطة الى الكونترا (المعارضة الإرهابية التي تحظى بالدعم الأمريكي) وفق جدول معين، وأن هذه السياسة في التفاوض (والتي فشلت)، وان كانت معقولة ومثالية فإنها ليست واقعية ويجب البحث عن بدائل لها“. هذا كلام السياسي الأمريكي وعن ذلك الكلام يقول جومسكي: “لاحظ ان الأمور “المعقولة والمثالية“ (حسب تصور الإدارة الأمريكية) هي ان يطلب من حكومة منتخبة “تسليم السلطة“ الى قوات تعمل بالنيابة عن الولايات المتحدة والتي “لم تتمكن من اجتذاب تأييد سياسي ذي قيمة“ في الإنتخابات! لم يكن لنيكاراغوا جار "وهابي"، ولا دول سنية غنية بالنفط كتلك التي تتآمر مع الإرهاب على العراق، ولم تكن السانديستا شيعية أو على خلاف مذهبي مع الكونترا، ولم يكن أي من الجهتين مسلماً، ورغم ذلك نجد القصة بحذافيرها تكرر هناك قبل اكثر من ربع قرن من الزمان! فالقضية في العراق إذن ليست في حقيقتها مشكلة طائفية، ولا هو عنف إسلامي ولا تخلف مميز للشعب العراقي كما يجهد الإعلام في محاولة إقناعنا، بل المشكلة هي أنها سياسة أمريكية ثابتة للتعامل مع إرادة أي شعب يحقق ولو شكلاً من الديمقراطية ويأمل بأن يتحكم ببلاده وثرواتها ويحلم بأن توجه تلك الثروات إلى مصالحه يوماً ما...إننا نرى أن ما يجري في العراق استنساخ لما جرى في نيكاراغوا وغيرها بشكل مثير للدهشة! إرهاب وضغوط دول الجوار وبقية العملاء ولا يتقصر التشابه على الضغط الأمريكي المباشر في العراق ونيكاراغوا لحقن الحكومة الوسطية بعملائها، وإصدار العفو العام لإجبارها على حفر قبرها بيدها على الداخل فقط أو الضغط الأمريكي المباشر ، بل يتعداه إلى استعمال "دول الجوار" الخاضعة لأميركا، وتكليفها بالأدوارالتخريبية الموجهة ضد بلاد الحكومة الوسطية. أقتبس من مقالتي: "قصة مدينتين و “الحرس القومي” : سوابق امريكية في إعادة الجلادين الى السلطة- ج2" (كتبت في تموز2009 ) ما يلي: إن ضغط دول الجوار الموالية لأميركا على العراق للمصالحة و “العفو العام” لهما نظيريهما في الثمانينات في أميركا الوسطى، كما في ضغط الهندوراس على حكومة الساندينستا الثورية في نيكاراغوا. وكانت هندوراس المجاورة، مركز الإرهاب الأمريكي في المنطقة، وحاضنة إرهابيي الكونترا التي تنطلق منها إلى نيكاراغوا حيث تقوم بعملياتها. قال آرياس، رئيس هندوراس لنيويورك تايمز: “لايمكن ان نتوقع من هندوراس ان تغلق معسكرات كونترا وتمنع التموين الجوي السري إذا لم يتفاوض ثوار ساندينستا على وقف لإطلاق النار مع رجال الكونترا ولم يصدروا عفواً عاماً“! فما أشبه اليوم بالبارحة وما أشبه ما أريد لنيكاراغوا بما يراد للعراق. لم يكن صدفة بالتأكيد أن نيكروبونتي، والذي اختارته إدارة بوش كأول سفير للولايات المتحدة في العراق، كان يقود مركز السي آي أي في هندوراس في ذلك الوقت! ولا تشمل حملة الضغط، عملاء أميركا في المنطقة وحدهم، فقد رأينا رئيس الوزراء الاسترالي جون هاورد المعروف بتبعيته الشديدة للولايات المتحدة، يهدد نوري المالكي بضرورة الإسراع في “عملية المصالحة“ وإلا واجه انسحابا محتملا للقوات الاسترالية من العراق! والغريب أن 80% من شعب هاورد كان يطالبه بسحب تلك القوات دون ان يهتم بذلك، لكنه مستعد لأن يسحبها من أجل خاطر عيون "السنة"! ومثل روبرت باستور موقف الإدارة الأمريكية حين كان يلوم حكومة ساندينستا في نيكاراغوا فيقول : “إن هؤلاء، بوصفهم خصومهم بأنهم اعداء طبقيون ومرتزقة، يستبعدون حواراً من شأنه ان يتيح لهم التفاوض على مخرج من حربهم ومن محنتهم الوطنية“. و يطالب بانهاء “ما نشأ من علاقة بين السياسات غير المجدية والإهانات المتعالية“ وهو يؤيد موقف “المعتدلين الذين يهتمون بالديمقراطية“ وبالذات راميرو غارديان الداعي الى “الواقعية” بدلاً من “الفكرة الإستحواذية المتبادلة“." لا يحتاج المرء إلا الى تحوير قليل في كلام باستور في نيكاراغوا، ليسمع نغمات ذات اللحن المألوف لخطاب أياد علاوي، المفضل الأمريكي في العراق. يجب فقط وضع “الطائفية” مكان “الطبقية” و“الإقصاء“ او”الخطوط الحمراء“ بدل “الفكرة الإستحواذية المتبادلة“ و “علاوي“ محل “غارديان“ ، لتتمتع بالمقارنة المدهشة. ومثل دفاع أميركا ورجلها المفضل أياد علاوي عن بقايا الأمن الصدامي والسعي لحمايتهم والضغط من أجل إعادتهم إلى مناصبهم، وإعفاء من تم القاء القبض عليه متلبساً بجريمة، يكتب جومسكي المتابع لتأريخ اميركا الوسطى عن اجتماع لرؤساء دول اميركا الوسطى قائلاً: “في الأيام السابقة لإجتماع الرؤساء شجبت حكومة كريستياني مقترح السلام الذي تقدمت به فروليما (ساندنيستا) لأنه يدعوا الى ازاحة الضباط العسكريين المشتركين في الفضائع الجماعية التي ارتكبت في الثمانينات. اجتمعت القيادة العسكرية بأسرها مع الصحفيين ونعتت الطلب بانه “خطل وسخيف ومستحيل“. وهي تهم مشابهة لما جابهته حملات اجتثاث أو مساءلة البعث من معارضة، حافظت على هجومها مهما تراجعت الحكومة وخففت شروطها. هذا التصعيد المستمر في المطالب، وعدم الإستجابة إلى أي تطمين، هو أهم علامات الذين يعملون لجهة أخرى،كما كتبنا مرة عن قيادي تظاهرات الغربية الذين رفضوا التفاوض مع الحكومة. فهم يعملون لأهداف أخرى غير معلنة يحددها أسيادهم، ومهمتهم هي استمرار الضغط والتوتر بغض النظر عن موقف المقابل ومرونته. إنهم ببساطة لا يبحثون عن حل، بل عن مشكلة يمكن إدامتها، في لعبة الضغط الأمريكي على الحكومة المنتخبة وشل قدرتها على الحركة. تحدثنا عن مظاهر المؤامرات الأمريكية لحقن الحكومات بعملائها في الثمانينات في نيكاراغوا كمثال، وعن محاولاتها لتكرار ذلك في العراق منذ الإحتلال، وفي الجزء الثاني والأخير سنناقش الهدف المباشر من تلك العملية ومدى نجاحها، كما سنمر على أخبار المحاولات الحثيثة هذه الأيام لاستغلال الأزمة لحقن مجموعة جديدة من العملاء في الحكومة، وكذلك سننظر في مواقف الحكومة من مؤامرة دفعها لحفر قبرها بيدها، ومدى وعيها ورفضها لها. |