عن "التفّاگين" وكركوك والمتنازع عليها |
لا تعني الكتابة القدرة على انتاج الكلمات وصفِّها في قالب نثري معين، فكثيرون يمتلكون هذه القدرة، بل تُقاس اهميتها على مقدار ما تكشفه من حقائق لتوعية الناس وقيادة رأيهم تجاه امرٍ ما. ومثلما يوجد "تفّاگون" وهم القادرون على حمل السلاح "التفگة" في المنطق العشائري، هناك تفّاگون في الكتابة ايضاً، يحملون الكلمة ويلقونها بوجه الآخر دون دراية او موضوعية. ليس لهؤلاء التفّاگين اية وظيفة سوى حمل السلاح والامتثال لما يأمرهم به شيخ العشيرة فقط. مكانهم ليس في صدور الدواوين ولا في مجالس العشائر حيث تحصل الاتفاقات العشائرية، بل على حافات النزاع، فتنتعش اهميتهم هناك عند حصول المشاكل فقط. ربما سيثيرهم اسمي الكردي اللعين، لكني أطلب من هؤلاء التفّاگين المسكونين بهوس المؤامرة والتخوين ان يخفضوا تفگهم قليلاً لنتحدث عن قضية كركوك بهدوء وعقل، ثم يقرّروا بعدها فيما اذا يرفعونها مرةً ثانية ام لا. بدءاً علينا الاعتراف بأن دخول الاكراد في العملية السياسية بعد عام ٢٠٠٣، لم يكن ايماناً منهم بالدولة الوطنية الواحدة ولم ينطلق من مبدأ العمل على وحدة تراب العراق، بل علاقتهم مع الدولة العراقية متمثلةً بالحكومة المركزية علاقة مصلحية، الاصل فيها "إسترجاع" محافظة كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها سلمياً، قبل المضي في اعلان دولتهم المنفصلة. فكركوك والمناطق المتنازع عليها هي التي رسمت تصورات الكرد السياسية وعلى هذا الاساس بنى قادتهم شكل العلاقة بين اقليم كردستان والحكومة المركزية. كلنا نعرف هذا جيداً، خصوصاً سياسيو الشيعة الذين كانوا اكثر تفهماً من غيرهم للمطالب الكردية في وقت كانت فيه قيادات السنّة متشددة جداً ولديها حسّاسية حادة من هكذا مطالب. إستوعب الدستور ومن قبله قانون ادارة الدولة العراقية المؤقت تلك المصلحة الكردية ووضع على اساسها قانون ١٤٠ وهو بمثابة خارطة طريق لحل مشكلة كركوك والمناطق المتنازع عليها. ذلك القانون الذي يحتوي على ثلاث مراحل، اوّلها التطبيع، أي ارجاع المهجرين مع تعويضهم واعادة المناطق المقتطعة الى محافظاتها الاصلية، وثانيها الاحصاء السكاني في تلك المناطق بعد التطبيع، وثالثها الاستفتاء العام حول تبعية تلك المناطق فيما اذا اختار سكانها اقليم كردستان ام البقاء مع الدولة المركزية. نصَّ القانون على انهاء تنفيذ كل إجراءات الفقرة ١٤٠ قبل ٣١ / ١٢ / ٢٠٠٧، اي قبل حوالي سبع سنوات. لقد قبل الشيعة والكرد مع جزء من السنّة (الحزب الاسلامي وما يمثله وقتئذ) هذا الدستور بفقرته ١٤٠ وتمّ تشكيل لجنة خاصة تعمل على تطبيق بنوده والانتهاء منها قبل عام ٢٠٠٨. ما الذي حصل بعدها؟ لم تُنفَّذ بنود الاتفاق حتى هذه اللحظة وجرى تسويفه وتعطيله بذرائع شتى، مرة بحجة عدم وجود الاموال الكافية واخرى بتغيير اعضاء ورئاسة اللجنة باستمرار، حتى وصل الامر بعد عام ٢٠٠٧ ان يتحدث بعض السياسيين من ان زمن التطبيق مضى ولسنا ملزمين بهذه المادة لانها تسقط اوتوماتيكيا اذا لم تُنفّذ قبل عام ٢٠٠٨. ورغم تأكيد السيد المالكي في وثيقة اربيل على انهاء هذا الموضوع في ولايته الثانية وقرّر الكرد التجديد له وفق هذا الاساس، الاّ إنه لم يفِ بوعده هذه المرة ايضاً. ممكن أن اتفهّم معارضة سياسيي السنّة (سابقاً وليس الآن طبعاً) لمطالب الاكراد في قضية كركوك والمتنازع عليها بأعتبار ان ال ١٤٠ ستقتطع جزءاً مهماً من "اراضيهم"، لكن لا ادري كيف يبرّر الشيعة معارضتهم لهذه الفقرة وهم الذين وافقوا عليها ايام كتابة الدستور. لا ادري كيف يسمّي سياسيو دولة القانون ومعهم تفّاگيهم "إحتلال" الكرد لكركوك خيانة ومؤامرة! لست مع حركة الكرد تلك اطلاقاً ولا ابرّر لها ابداً، لكن كباحث عن الحقيقة اقول ان الخيانة لفظة تقع على مَن يخون عهداً ما او وثيقة معينة وقّع عليها في السابق. إن سمّينا ما فعله الكرد خيانة فهناك مَن سيقول بخيانة المركز اولاً حين لم تُنفّذ عمداً الفقرة ١٤٠ بإعتراف السيدة الفتلاوي، أليس كذلك؟ مهلاً ايها التفاگون، فلم انهِ كلامي بعد. في كلتا الحالتين، وحدها الحكومة مَن تتحمل فشل لجنة ال ١٤٠ سواء قصّرت الحكومة ام تعمّدت في عدم التنفيذ. ووحدها مَن يمكن وصفها بخيانة تعهداتها وليس الآخرين. العقد شريعة المتعاقدين والانقلاب عليه يعني الاخلال بالالزام الذي الزم به الطرف الموقّع نفسه، مهما كان ذلك العقد مجحفاً وغير عادل. هذا ما لا يفهمه التفّاگون أو يتغاضون عنه. هل يمكن لكم الآن ان تسألوا لماذا ماطلت الحكومة في تنفيذ ما وقّعت عليه في السابق؟ هل يعني ذلك انها كانت تعرف بأن عدد الكرد اكثر في كركوك فخافت الاستفتاء لكي لا تذهب المحافظة الى كردستان؟ يبدأ العلاج بتشخيص المشكلة اوّلاً وليس الهروب منها. ايها التفّاگون، القرار قراركم الآن بعد ان عرفتم ان الفقرة ١٤٠ هي ضمير دستوركم، وإن الخيانة سلاح متبادل يستخدمه الاقليم والمركز ضد بعضهما البعض، فهل مازلتم تصرّون على حلول "التفگ" بدلاً من حلول العقل؟ |