(الأنانية) تبدأ منذ ولادة الوليد بدافع غريزي فيشرع أولا بالمسك ثم بالمص , وإذا لمست يداك وجنتيه يفتح فمه ، وإذا وقعت أيّ حاجة بين أنامله يمسك بها ويضعها في فمه ولا يفقه شيئاً سوى (الأنا) لأنه ضعيف الحيلة بدونها, ثم يتطور الإحساس غير المدرك الى الذاتية المدركة والتفطن لما حوله ويسعى لجرّ الأنظار إليه عبر البكاء والصراخ عند الجوع او الألم بدون أيّ وعي أو عمل إرادي حتى يتطور الجهاز العصبي المركزي وخصوصاً المخ والمخيخ ، فتشرع الإرادة ويتحسس بأنه فرد ولكن تبقى الأنانية تدور حول ذاته... ويكبر شيئاً فشيئاً، فيرى أن ذاته مرهونة بإرادات أفراد المجتمع وما هو إلا عضواً في هيكل متكامل مترابط متعاون لسير الحياة وديمومتها, بل قل لا تبرز أنانيته إلا من رضى الآخرين ، فتنفلق عنده الغيرة وتقهر (الأنانية) ، ويتوضع جليا ما يسمى بـ(الألترويزم) ، وهو حب مساعدة الآخرين ،والالتفات إلى حاجاتهم ومأساتهم ورغباتهم ويختلف هذا ( الألترويزم) من شخص لآخر حسب الدوافع الغريزية ، والظروف الموضوعية التي نشأ فيها الفرد ولكن من سوء حظ الفنان او الشاعرالمطبوع، وربما من حسن حظه - ولحسن حظ المجتمع والتاريخ الإنساني تبقى غريزة الأنانية قوية لديه في مجال فنه ، وحدود عبقريته فتراه يبالغ في إبداعه ، ويفخر أشد الفخر وهذا ما سنتناوله في موضوع الفخر, وعامة الناس ساهية لاهية لا تعرف من الأمر شيئاً وإن عرفتْ تغافلتْ ، لأن أنانيته حول نتاجه وفخره بإبداعه يجاوز حد المعقول , ولكن العبقري في تعبيره عن نفسه يصبّ في مجرى النفوس البشرية ومكنوناتها ، ويظهر بواطنها بشكل فني رائع لا يستطيع الآخرون أن يعبروا عنه بنفس الكيفية والإبداع وقد تتضارب إرادة الفنان او العبقري مع بعض إرادات الآخرين ومصالحهم الذاتية وطبيعتهم البشرية فتبرز (الأنا) عنده أكثر حدّة وهنا قد يقع تحت وطأة الآخرين ورحمة الأقدار فتنحرف عبقريته - من حيث يدري أو لا يدري- عن مجالها الإنساني الشمولي إذ يقول دافيد ديتشر : " التعبير عن الذات في الفن لا قيمة له إلا إذا أضاء الفنان في التعبير عن نفسه بعض التجارب الإنسانية, أي يجسد تجربة ما مرتبطة بالتجربة العامة للناس وبالتالي ذات قيمه موضوعية " (22) ، ويقول ت.س إليوت : " الشعر ليس إطلاقا لعنان الانفعال بل هروب منه وليس تعبيراً عن الشخصية بل هروب منها " ، (23) فالشعر الجيد أو النثر بإبداعه يجعل الشعور موضوعاً معبراً عنه على نحو غير مباشر من خلال وصفه للأشياء، ولكن هل العباقرة الذين عبروا في نتاجاتهم عن بعض وجوه غرورهم الفني هم وحدهم الملامون على ذلك ؟! كلا فالعلاقات الإنسانية مترابطة متشابكة لا يمكن تجزئتها ، ويذهب آي ، إي ، رتشاردرفي ( نظريته الأدبية الحديثة) ، الإنسان " ليس في أساسه فكراً بأي معنى كان , إنه منظومة من المصالح" وهذا يستتبع أن الخير هو " ممارسة الدوافع وإرضاء نزاعاته الغريزية" والنزعة الغريزية هي الرغبة الواعية أو غير الواعية بمعناها الأوسع ولأن سنه الحياة هي على ما هي عليه , فأن رغباتنا لا بد لها. للأسف الشديد أن تتضارب خصوصاً ، وإننا كائنات اجتماعية بقدر ما نحن أفراد مما يجعلنا نأخذ بالاعتبار حاجات الآخرين إضافة إلى حاجاتنا الذاتية ، فمشكلة الأخلاق هي إذن وقبل كل شيء مشكلة تنظيم من قبل الرأي والرأي الآخر ، (24) ، وبالتالي بين العبقري وبعض افراد مجتمعه ولذلك يظهر الاختلاف حول العباقرة مما سنبحثه في فصل قادم , فإذا استطاع العبقري أن يوازن تماماً بين الحقائق الخارجية والوجدان وهذا مما يطلق عليه بالمعادل الموضوعي. ( 25) . (the objective correlative) انبثق - نقصد العبقري- كعامل مؤثر ويشق طريقه في سبيل الخلود. أما أن " معيار القيمة في الانتاج الجديد قدرته على أن يشق طريقه وسط زحمة الأعمال الفنية الأخرى ويتوافق مع الماضي والتخلي عن ذاتية الشاعر أو فرديته في سبيل الهدف الأسمى وهو تحقيق الموضوعية ، لذلك يقول إليوت :"إن تقدم الفنان ما هو إلا دأ به على التضحية الذاتية أي دأبه على محو شخصيته" ويعتبر إليوت عملية الإبداع عملية نقدية لذا ان نقد الكاتب لإنتاجه الخاص أعظم إنتاج في النقد" ، (26) إنّ معيار القيمة في الانتاج الادبي والفني مرتبط - من وجهة نظرنا- في ثلاثة عوامل الإنتاج نفسه وشخصية العبقري والوعاء (الزمكاني) ان صح التعبير. أما الذاتية فهنالك الكثير من القراء يحبذون أن يبرز العبقري كوامنه النفسية بل وغروره ، ويعشقون تحدي العبقري وفرض ذاته سواء عند قراء العربية اوغيرها من الأمم بل ويرددونها والأدب العربي والعالمي يعج بما نذهب إليه, لأن الفرد جزء من المجتمع والمجتمع مجموعة أفراد ، وهنالك من القراء يحبذون الغيرية والموضوعية في الادب ولا نريد الاستشهاد لان الموضوع يطول جدا. لهذا يقول الدكتور شوقي ضيف : "لا نلبث أن نجد النقاد يثيرون في دراسة الأدباء مشاكل العقد واللا شعور والنرجسية ونفسية الفرد والجماعة وغير ذلك مما يدور في أبحاث النفسيين ، ويذهب الناقد الأنكليزي (ريتشاردز) " إن الجودة في الآثار الأدبية ليس لها إلا قياس واحد هو القياس النفسي" . (27) و هذه "الأنانية" الكلمة اللعينة اللذيذة... نشمئزمنها أمام الآخرين ، ونصب عليها لعناتنا... نمارسها كل يوم في الخفاء والعلانية... وغريزة الجنس نوع من " الأنانية" المحضة دافعها حب التملك ووجودنا مرهون بأنانيتها.... , الكلام عن الذات و غير الذات للفت الأنظار للمتكلم (أنانية)... التدافع عند ركوب الحافلات وقت الازدحام "أنانية"... التسابق على فرص العمل "أنانية"... لذا يقول الدكتور علي الوردي " إذا قلنا للناس انبذوا الحسد والأنانية فمعنى ذلك، إننا نقول لهم: اتركوا طبيعتكم البشرية وكونوا ملائكة ، أما الضمير فهو كذلك عاجز عن ردع الإنسان عن عمل يهوى القيام به ، إن الضمير أمر نسبي كما ثبت في علم الاجتماع الحديث" (28) , بل في رأي "مندفيل" أن رذائل الإنسان - إذا اعتبرنا الأنانية من الرذائل- لا فضائله - هي أساس المدنية أن نجد الفكرة نفسها في كتابه " ثروة الامم"، ونعني فكرة الرغبة الإنسانية، (المصلحة...الشخصية) إذ يعتبرها أساساً عريضاً لكل فلسفته في النظام الطبيعي باعتبارها الدوافع الأساسية للنشاط الاقتصادي في جميع صوره ،وأن الشخصية هي التي تدفع الإنسان الى محاولة تحسين حاله وبالتالي تحقيق الخير كله للجماعة وأن الغريزة هي التي تدفع الإنسان لتكوين رأس المال وتدفعهم إلى الادخار وتحثهم على استثمار رؤوس الأموال وإلى زيادة الانتاج في العمل وبالتالي زيادة ثروة الأمة. (29) وربّ قائل يقول: أمن الأدب إلى رأس المال؟ّ! ونحن نجيبه أولاً أن موضوعنا هو تناول أفكار جميع العباقرة... ثم أن غريزة (الأنا) مترابطة ودوافعها واحدة عند الإنسان ولو أن لها وجوه متعددة فمثلاً دوافع الإبداع لدى الفنان كما يقول ألكسندر إليوت أنه يبجث عن الشهرة والظهور بين الناس والفنان يحتاج إلى الحث أكثر من حاجته إلى المال لذلك مات المصور (كوريجيو) كمداً حين لم ترض السلطات عن رسمه لـ (قبة إحدى الكنائس) رغم أنهم أعطوه كامل أجره غير منقوص. ويجب أن لا تتعدى (الأنانية) حدود الأعراف الاجتماعية فتصبح مهينة مشينة فكما يقال تقف حدود حريتك عند حدود حرية الآخرين ، ولاتنفي (الألتزويزم) كما ذهبنا في بداية المقال ،وهو حب مساعدة الآخرين ومنذ القدم كان أرسطو أول من أوضح في العصور القديمة أن الحياة الاجتماعية من جوهر الإنسان ولخص ذلك في عبارته المشهورة " الإنسان حيوان اجتماعي" وقد نشر الرواقيون بعد ذلك فكرتهم التي تقول إن الإنسان تتحكم فيه غريزتان أساسيتان(أنانية) والأخرى (غيرية ) ، و هاتان الغريزتان تندمجان اندماجا كلياً في حياة الإنسان بحيث لا نستطيع أن نفصل أثر احداهما عن أثر الأخرى, فالإنسان لا يرضى بحياة العزلة حتى لو تهيأت له جميع أنواع المللذات وهو حين يحافظ على حياته بدافع الأنانية يسعى في الوقت نفسه للعيش في المجتمع وتلك من أهم الوسائل لحفظ النوع . (30) بينما يذهب (فرويد): إن الأجزاء المكون للنفس تتألف من ثلاث مجموعات من الوظائف "الإيد " وتتعلق مباشرة بالدوافع الغريزية ، و"الأنا" وهي الواسطة التي تنظم الدوافع وتعارضها ، و "الأنا الأعلى" و هي جزء آخر من الأنا يقوم بوظيفة إصدار الحكم النقدي, (*) لقد تطور نقد التحليل النفسي القائم على علم نفس - الأنا- باعتباره متميزاً عن علم نفس - الإيد - (كما كانت تدعي النظرية المبكرة في الغريزة) بتأثير نظرية الابداع التي جاء بها عالم النفس الامريكي (ارنست كريس) العضو السابق في حلقة فرويد في فينا. اما اكثر دعاة هذه النظرية ومطوريها نشاطا وان لم يكن اولهم فهو (نورمان هولاند) الذي يعالج مسألة ما يدور بين القارئ والنص ، ويرى هولاند هذه العلاقة على أنها بين تخيلات الإ يد ودفاعات الأنا ، أي أنه يعتبر أن مصدر الللذة التي تستمدها من الأدب يكمن في تحويل رغباتنا ومخاوفنا إلى معانٍ مقبولة من الوجهة الثقافية(31) . سنأخذ مثالاً على هذا الموضوع ، يقول أبو العلاء المعري : فلا هطلتْ عليّ ولا بأرضي ***سحائب ليس تنتظم البلادا ويقول أبو فراس الحمداني: معللتي بالوصل والموت دونهُ *** إذا متُّ ضمآناً فلا نزل القطرُ يقول أحمد شوقي حول معنى البيتين ، ومذهب الشاعرين : " انظر إلى الأول كيف شرع سنّة الإيثار ، وبالغ في إظهار رقة النفس للنفس ، وانعطاف الجنس نحو الجنس ، وإلى الثاني كيف وضع مبدأ الإثرة ، وغالى بالنفس ، ورأى لها الاختصاص بالمنفعة في هذه الدنيا ، تعيش فيها حافية ، ثم تخرج منها غير آسية ."(32) طبعاً أحمد شوقي لم يتعمق بالمعنى ، ولم يعطِ الظروف الموضوعية التي جعلت الشاعر الفارس أبا فراس الحمداني أن ينطلق من هذا المنطلق ، ولم ينتبه إلى بواعثه ودوافعه النفسية لحظة نظم البيت ، وينسى أن أبا فراس من إسرة حاكمة ، عرفت بالإقدام والعنفوان ، وهو القائل في القصيدة نفسه : ونحن أناسٌ لا توسط بيننا ***لنا الصدر بين العالمين أو القبرُ أما الدكتور زكي مبارك يقول : الشعراء نوعان أنانيون وغيريون ، ومتذوقوا الأدب مَن يميل إلى هؤلاء ، وإلى أولئك، ولكن الشعراء الأنانيين أكثر صدقاً وتعبيراً عن ماهية النفس البشرية ومكنوناتها من الغيريين ، والأنانية تفرض وجودها على الكون والحياة ، فالشمس تحجب بقية الكواكب ، والقمر يستحوذ مجال النجوم ، ويبدو ذليلاً أمام الشمس ، والشجرة الكبيرة الوارفة الظلال الكثيرة الثمار لولا استئثارها بأغلب أملاح التربة المعدنية على حساب الحشائشوالشجيرات الصغيرة ... أترى بلغت هذا الحجم الكبير ؟!! لذا يقف الدكتور مبارك إلى جانب أبي فراس ، ويعتبره أبلغ صدقاً ، وأكثر جرأة من المعري الذي يتصنع الفضيلة والإيثار . وهكذا نرى يختلف شاعر كبير مع ناقد شهير على موضوع واحد ، وكل ينظر إليه من زاويته ، وبعده الثقافي ، وعمقه النفسي ، والحقيقة أيضاً يجب أن تقال ، إن شيخ المعرة من بيئة علمية ، ولم ير من الحياة ما يستحق النزاع والصراع ... خمدت عيناه ، وهو طفل ، وأصيب بالجدري ، لم يبق لديه إلا جملة الروح والزهد في الحياة ، وهو القائل : لو كان لي أو لغيري قدر أنملةٍ *** من البسيطة خلتُ الأمرَ مشتركا ومما يروى عنه بالرغم من عيشة الكفاف ، وضيق ما في اليد ، كان يساعد الآخرين ، ويكرم الوافدين ، وخلاصة القول ، إن أبا فراس حمل السيف ، وتصارع في سبيل الأمارة ، وقتل بسببها ، وكان أجرأ موقفاً ، وأصدق قولاً في تعبيره عن خوالج النفس البشرية ، وأنانيتها الغريزية في لحظات حاسمة ، وله الحق فيما ذهب إليه ، وللدكتور مبارك أيضا الحق في تحليله ، ووجهة نظره الصائبة ، ولكن الأمير الشاعر بالتأكيد كان كريم النفس سخياً ، لأن الشجاعة والكرم صفتان متلازمتان أبداً . أمّا أبو العلاء المعري عجز أن يحمل السيف ، فحمل القلم لإظهار ذاته ، وإبراز نفسه ، ونجح نجاحاً باهراً على مرّ العصور ، إذ مزج الغريزة بالعقل ، ووصل إلى حقيقة تقنع الناس ، وتكررها ، ولكن لا تلتزم بها ، ولا تريد : قد فاضت الدنيا بأدناسها *** على براياها وأجناسها نعم كلنا نحترم الزاهد ، ولا نطيق الزهد ، ونقدس البطل الصامد ، و لا نتجرأ أن نكون أبطالاً صامدين ، وختاماً أبو فراس بأنانيته ، كان أجرأ ، وأصدق ، وأكرم ، أما أبو العلاء فكان أعقل ، وأزهد ، وأحلم !!! والله أعلم ، ونؤجل الفخر والإباء إلى نزهةٍ أدسم !! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) الإيد ، الأنا ، الأنا الأعلى ، في اللغة اللاتينية : Id , Ego, Super ego
|