الدولة المليشياتية |
بديهيا إن الدولة هي الكيان القانوني الوحيد المنوط به امتلاك وسائل القوة وشرعية استخدامها, إلا إن احتدام الأزمات السياسية في العراق أدى إلى توالد المليشيات المسلحة, وقادت الشعب إلى أتون حرب طائفية مريرة كان ضحاياها الآلاف من الأبرياء العزل ليس لهم من ذنب سوى إنهم كانوا أهدافا سهلة لهذه المليشيات, ولعل من اخطر هذه المليشيات تلك المرتبطة بالسلطة أو برجالات السياسة لما تشكله من انتهاك صارخ لهيبة الدولة وقوتها وانتكاسة لمؤسساتها الدستورية, وعلى وقع تشكيل مليشيا "الجيش العراقي الحر" وتداعيات التظاهرات في الأنبار ولدت مليشيا"جيش المختار" لدعم توجهات حكومة رئيس الوزراء حسبما أفصح عنه زعيمها الذي هدد وتوعد, وتصرف وكأنه حاكم الدولة المطلق, ووزعت استمارات الانتماء على مرأى ومسمع السلطات الأمنية وكأنه جيش نظامي, فيما اكتفت السلطة بإصدار أمر القبض في وسائل الإعلام وترك يغادر خارجا دون وجود أثرا لهذا الأمر على ارض الواقع, وهذا ما يدل على أنها بلغت من الضعف حدا لا يمكنها من فرض سلطة القانون وحصر السلاح بأجهزة الدولة الأمنية وفي الوقت نفسه يشير وبما لا يقبل الشك إلى ضلوع السلطة في تشكيل هذه المليشيات للاستعانة بها والتأسيس للدولة المليشياتية. إن مفهوم "الدولة المليشياتية يرتبط غالبا مع حالات ضعف ووهن وانتكاسات خطيرة تمر بها الدولة لاختلال عنصر أو أكثر من عناصر قيامها ويؤدي إلى إضعاف سلطتها وعدم القدرة على التحكم والسيطرة في مجريات الأحداث فتستعين بالمليشيات لعجزها عن بسط نفوذها الكامل على حدودها الإقليمية, أو استخفافها بالأنظمة والقوانين والقفز عليها باستخدام المليشيات في القتال الخفي لإقصاء الخصوم وإرهابهم, وهي تقوم بهذه الأعمال من منطلق الدفاع عن مكانتها وسلطاتها التي يتهددها احتدام الأزمات ضمن الإطار الديمقراطي وتلافي الخرق المباشر للأحكام الدستورية كالفصل بين السلطات واستقلالية القضاء وحصانة السلطة التشريعية وما إلى ذلك من المؤسسات الدستورية التي تعمل على تقييد صلاحيات السلطة الحاكمة، الأمر الذي يدفعها إلى ممارسة القوة الخفية أو التلويح بها بالاستعانة بالمليشيات, والمليشيات هي مجاميع طوعية شبه عسكرية فوضوية غير منضبطة من المتطرفين والغوغاء واللصوص, وبنادق مأجورة تمول نفسها بطرق غير مشروعة بارتباطها بجهات مخابراتية محلية أو خارجية أو أطراف سياسية لا تملك قاعدة جماهيرية مؤثرة, وباستثناء المليشيا التي تتشكل وفق أيدلوجيات عقائدية ترتبط بمبادئ سامية كمقاومة الاحتلال والتصدي للأخطار الخارجية التي تتهدد كيان الدولة والمليشيات الثورية التي تنشأ لمقارعة السلطة المستبدة القامعة والتي ينتهي دورها وتحل بتحقق الهدف, فان المليشيات ليس لها أي دور ايجابي في المجتمع, وحيثما وجدت وجد القتل والخطف والاغتيال والتهجير والتنكيل ومصادرة الحريات والحقوق وكان قرار دمج المليشيات في أجهزة الدولة الدستورية قد منح هذه المليشيات الصفة القانونية لممارسة أنشطتها في ظل مخاطر احتفاظها بولائها لأحزابها وطوائفها ومموليها, فبرزت من بينها فرق الموت والاغتيالات بسلطة الدولة وإمكانياتها وأضحت سلطة المليشيات تفوق سلطة الأجهزة الأمنية الدستورية, وأضافت القوات الأميركية مليشيات أخرى ساندة لها حين دعمت بعض شيوخ القبائل لتشكيل ميليشيا (الصحوة) لمواجهة خطر تنظيمات (القاعدة) الإرهابية, وبعد انحسار خطر (القاعدة) تحول زعماء هذه المليشيات إلى عوامل إضعاف للحكومة, فحالت هذه الزعامات دون انجاز مشاريع كانت مقررة في محافظة الانبار, وفرضت إتاوات على المشاريع الاستثمارية أدت إلى عزوف المستثمرين عن الاستثمار, وسيطرت على المنافذ الحدودية وعائداتها, واستأثرت بالأموال المخصصة للمحافظة, بل وتدخلت سلبا في الأزمة السورية على عكس الموقف الرسمي للدولة, وساهمت في تهريب السلاح والمقاتلين إلى سوريا في تحد صارخ لسلطتها, وهذا يسقط قناع الوطنية عن زعاماتها ويكشف ارتباطاتها وتبعيتها لأطراف خارجية مولت وأشعلت الفتنة الطائفية في سوريا واستعدادها الدائم لممارسة هذا الدور في العراق أيضا, وفي مقابل ذلك شكل رئيس الوزراء مجالس الإنقاذ العشائرية وهذه أيضا لا تختلف عن سابقتها في أضرارها بأمن الدولة والمجتمع وأصبح العرف العشائري المتخلف بفعل المليشيات العشائرية يسمو على قوة القانون وسلطته. ورغم ذلك لم يعي رئيس الوزراء خطورة الاعتماد على المليشيات وانفلات زمامها, فقد اعتدنا على بروز تنظيمات مليشياتية بين الحين والآخر يرتبط ظهورها بأزمة معينة للتلويح بها ثم ينتهي دورها بانتهاء الأزمة, ومع تصاعد حدة الأزمة مع الكويت وتداعيات أزمة بناء ميناء مبارك وتأثيره على الموانئ العراقية تم تشكيل تنظيمات جديدة من الميليشيات في عدة محافظات عراقية ارتبطت بمكاتب "المصالحة الوطنية" جند عناصرها بالمال أو بالتوظيف على ملاكات الدوائر الرسمية الحكومية، وحملت اسم "فرسان دولة القانون", وكان هذا التنظيم قد هدد في بيان أصدره في الثالث عشر من آب الماضي, الكويتيين برد صاروخي سريع وحاسم, وميليشيا "فرسان دولة القانون" تعمل ضمن ائتلاف "دولة القانون" الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي, وترتبط بأجندته الحزبية. ومع اشتداد أزمة سحب الثقة نظمت ميليشيا "عصائب أهل الحق " المنشقة عن التيار الصدري بزعامة "قيس الخزعلي المقرب من رئيس الوزراء استعراضا عسكريا وسط بغداد برعاية ودعم ائتلاف "دولة القانون" وبمشاركة القيادي كمال ألساعدي في مؤشر بدا واضحا على انه تحالف موجه ضد زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر. فيما كانت الأزمة مع رئيس إقليم كردستان "مسعود البرزاني" إيذانا بميلاد مليشيا أطلقت على نفسها فوج (9 بدر) هددت جميع الأكراد في بغداد والمناطق ذات الأغلبية العربية وأمهلتهم أسبوعا واحدا للمغادرة إلى إقليم كردستان, وميليشيا فوج (9 بدر) هذه تشكلت من قبل ائتلاف أبناء العراق الغيارى برئاسة الشيخ عباس المحمداوي القريب من رئيس الحكومة نوري المالكي وضمن ائتلافه !! وحتى المتظاهرين المسالمين لم يسلموا من المليشيات المضادة لهم, وقصة الاشتباكات التي وقعت بين أتباع رئيس الوزراء نوري المالكي ومتظاهري بغداد في ساحة التحرير ما زالت شاخصة للعيان, حيث استغلت قضية "عرس الدجيل" للتظاهر تأييداً للمالكي والتنديد بخصومه نظمها احد الانتهازيين المعروفين في الوسط الإعلامي والمقربين من المالكي. وليس هذا فحسب, فما يزيد من مخاطر استفحال دور هذه المليشيات وتأثيرها السيئ على مجريات الحياة السياسية هو تضمين الموازنات العامة لمبالغ هائلة تحت حساب "دمج المليشيات في العملية السياسية" (بلغت في العام الماضي وحده 240 مليون دولار), وهذا يدل على استخدام المال العام في تمويل هذه المليشيات وعقد شراكة دائمة بين الحكومة والمليشيات والاستعانة بها وقت الضرورة, وما ينجم عن الاستعانة بها من ارتفاع مؤشرات نشوب الحروب الأهلية التي خبرنا تأثيراتها على الدولة والمجتمع جيدا ... وهنا مكمن الخطر. |