كنت أسأل نفسي ماذا لو كنت هاجرت وأنا ابن العشرين سنة، او ماذا لو كنت ولدت في بلاد بلا حروب ودكتاتوريات وازمات؟ كم سأنجز من الكتب، كم سأكتب من القصائد التي تتغنى بالإنسان والحب والخلود؟ انا المسكون منذ الصبا بالشعر والكلمات والموسيقى والعشق غير المنقطع للحياة والطبيعة، في كل مرة كنت أسأل الاسئلة هذه، وانا اجاهد، افكر بالعمود الذي ينبغي علي كتابته للجريدة هذه، للمجلة تلك، لكما سنحت لحظة لكتابة قصيدة أجدني مكبلاً بأعمدة تستدعي السياسة والأمن والارهاب، كلما هيأت نفسي لتأمل شيء يشبه كتابة قصيدة، تتبع نأمة من خيال ما، لاحقتني فكرة الموت بإطلاقة طائشة أو أن يدخل علي غرفة نومي مسلحون من بني جلدتي، يضعون المسدس في رأسي الذي فيه أذناي وعيناي ثم يعصبونه، او يطبقون فمي بشريط لاصق، أخيلة مثل هذه غالبا ما تراودني، كثيرا ما تسد عليَّ منافذ القصيدة. قد لا أكون أنا، وقد لا يكون صديقي الذي كتب اسم ابني منقوصاً من اسمي في إهدائه لأحد كتبه له، وقد لا يكون ابن جيراننا الذي قيّد مخفوراً في سيارة لا تحمل أرقاماً البارحة، وقد يكون كل عراقي يحمل ضميراً عبقرياً حدّث نفسه مصلحاً من شان ما في هذا الوطن الذي يتقنفذ دائماً، ها أنذا أبهم كما ترون، شرطي مغمض العينين يتسلل دائما لحاسبتي يأمرني أن أقفز على الدم والاجساد المتناثرة، على الحدود التي تستباح هنا وهناك. أقسى ما يمكن مقارعته هو أن لا تكتب كما ينبغي، يتجرأ اصدقائي في المهاجر والمنافي على كتابة حادة صادمة، تنتقد، وتجرّح ،كلمات تقترب من الحقيقة كثيراً، مدونات ستتحول إلى وثائق مهمة. أصدقائي في الموصل وتكريت والرمادي لا يتجرؤون على تدوين مواقفهم كما يجب من داعش والمسلحين هناك وانا لا أتجرأ على تدوين موقفي من الصرخي . كم صرخياً سأحصي في دفاتري؟ هل أقول إني أصطدم بثكنة الدين والطائفة مثلما يصطدم أصدقائي هناك بالثكنة ذاتها. مع كل صورة مضرجة بالدم أشاهدها على صفحتي عل فيس بوك تتجدد عندي فكرة السفر الأبدي والهجرة من البلاد القاتلة هذه لبلاد لا يقتل فيها أحدٌ أحداً، رائحة البارود في البيت، والبندقيتان اللتان في زاوية خزانة الملابس مع كيس الاطلاقات وصورة الجندي الذي كنته قبل ربع قرن المعلقة على الحائط اشياء باتت لا تشعرني بالأمان، فأزوغ ببصري ناحية المكتبة، أتصفح الكتب هذه والمجلة تلك، رائحة الورق أمينة متسامحة، وساعة تضيق الجدران أتسلل مرتبكاً للحديقة، ورق أخضر كثير يحف بي حتى لحظة وصولي الطاولة بين النخل. ثمة حمامة قمرية تتخذ من غصنين نحيفين في شجرة الرمان عشاً، المسكينة اكتفت وصغارها، بعيدان من حلفاء، غير عابئة بما يضجرني، بسلة الأماني التي تتكسر في روحي. أحاول أن أتجاهل صورة المتحدث بلسان الجيش على الشاشة، وهو يعدد القرى والقصبات التي طهرها الجنود الجنوبيون من داعش، الجنود، أبنائي وأبناء جيراني، الذين ما زلت أنتظر معهم كمال الارض والسماء، أتجاهل الصور الكثيرة تلك، ذلك لأني رحت أشكّل رسوم المقاتلين الذين سقطوا وسيسقطون شهداء وغرباء على أرض الوطن الذي ظلت تتناهشه الكلاب منذ قيامة الله الأولى ، وبين حشد الصور والرسوم تلك، ووسط عالم من شاشات كثيرة لم أفلح في تفادي صورة أخي الذي سقط بين أحراش الفاو، قبل نحو من ثلاثين سنة وهو يطرد الغزاة هناك، صورته التي كان عليها بعد سبعة أيام من مصرعه، مع اللغم الذي كان عند خاصرته ،صورته على النقالة في مركز تسليم الشهداء على طريق الشعيبة مع الدود الذي ظل يسقط غزيراً على جانبي الطريق. انا لا أفكر بالقصيدة الآن.
|